هدف الديموقراطية ف سوريا أمريكياً وأوروبياً وسورياً (1)

 

 

 علي الشهابي


 

تقديم
بديهي أنه لا خلاف بين الولايات المتحدة والأوروبيين إلا على المصالح الاقتصادية، فحيثما تلتقي يلتقيان والعكس. وكان وجود الاتحاد السوفييتي يكبح حدية التنافس بينهما، أما بعد تلاشيه فانفتح الباب على مصراعيه. لكن هذا التنافس كان ومازال بين طرفين غير متكافئين، فاقتصاد الولايات المتحدة أقوى من اقتصاد كل بلدان أوروبا الغربية مجتمعة. لذا كان التنافس التقليدي بينهما يزيد الأقوى قوة والأضعف ضعفاً، وخصوصاً في ظل القوة العسكرية للأولى الذي من منطقه أن يفرض تحقيق مكاسب اقتصادية لها على حساب الثانية. في ظل هذا الوضع، وجدت بلدان أوروبا الغربية نفسها أمام خيارٍ من اثنين: إما أن ترضخ لقدرها وترضى أن تزداد تراجعاً اقتصادياً أمام الولايات المتحدة لتصير تابعاً لها، أو أن تسير على طريق توسيع سوقها لتواصل تطورها الاقتصادي على أرضية استمرار النديّة بينهما. فاختارت الثاني.. وهكذا سارت على طريق توسيع السوق عبر تشكيل الاتحاد الأوروبي. فما هي ماهية هذا الاتحاد؟

يكمن كل مغزى تشكيل هذا الاتحاد، وتوسيع رقعته في محيطه الجغرافي، في توسيع السوق. وليس المقصود بتوسيع السوق زيادة استثمار رؤوس الأموال في الخارج، ولا زيادة تصدير السلع. فهاتان العمليتان كانت بلدان أوروبا الغربية تحاول القيام بهما قبل سيرها على طريق تشكيل الاتحاد الأوروبي، وكانت النتيجة فشلاً ذريعاً. فتوسيع السوق المقصود هو الاندماج الاقتصادي التام بين بلدان أوروبا الغربية والبلدان الأقل تطوراً المحيطة بها، أي معظم بلدان أوروبا الشرقية إلى الآن وتركيا وغيرها مستقبلاً. وهذا الاندماج يعني، فيما يعني، زيادة وتيرة تطور البلدان التي تندمج بأوروبا الغربية أكثر من وتيرة تطور بلدان أوروبا الغربية نفسها. والسؤال الذي يطرح نفسه "كيف يفعل هذا الاندماج فعله في تنشيط الاقتصاد الأوروبي الغربي، وخصوصاً أنه يجعل وتيرة تطور المجتمعات الشرقية أعلى من وتيرة تطور الغربية"؟

لنأخذ حالة أي بلد أوروبي شرقي، بولونيا مثلاً. بما أن الولايات المتحدة أقوى اقتصادياً من كل بلدان أوروبا الغربية، فأي سلعة ترغب بولونيا بشرائها من الخارج، يمكن للولايات المتحدة تقديمها لها بشروط أفضل من شروط الأوروبيين الغربيين. وبالتالي من مصلحة بولونيا التعامل مع الأمريكيين لا الأوروبيين. لذا وجدت أوروبا الغربية أنه لابد من إيجاد طريقة تصير فيها لبولونيا مصلحة في تفضيلهم على الأمريكيين. ولهذه الغاية، قامت بلدان السوق الأوروبية المشتركة بتوحيد سوقها أولاً، لتعرض من ثم على بلدان أوروبا الشرقية الوحدة معها. فبهذه الوحدة تصير لأوروبا الشرقية والغربية مصلحة واحدة، إذ تزول ليس فقط الرسوم الجمركية بينهما، بل إن حدود الدول نفسها تصير شكلية. فيصير الأفراد أحراراً بالتنقل فيما بينها، ويتوحد رأس المال والنقد والأجور والأسعار والقوانين وأنظمة العمل من ضمان صحي واجتماعي..إلخ. باختصار تصير كل هذه الدول كما لو أنها دولة واحدة، والدولة الواحدة لها مصلحة واحدة. فتوسيع السوق بهذا الشكل التوحيدي يحقق مصلحة الأوروبيين الشرقيين والغربيين معاً لأنه:
1ـ يدفع الحكومات الغربية والشرقية إلى العمل على جعل مجتمعات البلدان الشرقية على صورة الغربية من كل
الزوايا الرئيسية، وهذا من مصلحة الشعوب الشرقية.

2ـ من مصلحة رأس المال في البلدان الشرقية أن يكف عن التبعية لرأس المال العالمي ليصير جزءاً عضوياً من بنية هذا الرأسمال من خلال التوحد مع رأس المال الأوروبي الغربي. وبنفس الوقت، فإن هذه الوحدة تقوّي القدرة التنافسية لرأس المال الأوروبي الغربي في الساحة العالمية.

3ـ وربما الأهم من هذا وذاك، من الناحية الاقتصادية الصرف، أن هذه الوحدة تؤدي إلى زيادة النشاط الاقتصادي لثلاثة أسباب:

· زيادة الاستهلاك بزيادة عدد السكان.

· تدفع بلدان أوروبا الشرقية إلى التعامل الاقتصادي مع أوروبا الغربية بشكل رئيسي. صحيح أنها تترك لهم حرية اختيار السلعة التي يريدون بغض النظر عن مصدرها، لكن هذه الحرية شكلية لأنها متوفرة لكل الأوروبيين ومع ذلك يستهلكون عموماً البضائع الأوروبية.

· إن تطوير مستوى معيشة البلدان الشرقية يزيد استهلاكها.

4ـ هذا التنشط الاقتصادي من البديهي أن ينعكس إيجاباً على المجتمعات الأوروبية الغربية ككل، لا على رأس المال فقط.

إذن، لهذا السبب الأساسي ـ تخلّفها النسبي ـ سارت بلدان أوروبا الغربية على طريق تشكيل الاتحاد الأوروبي، لكنها لم تتمكن من اللحاق بالولايات المتحدة. ومن غير المتوقع أن تلحق بها على المدى القريب أو المتوسط، هذا إن كان أمامها فرصة للحاق بها أصلاً. وبالتالي فهذا التخلف يدفع كلاً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى آليتي عمل مختلفتين: الأول يسعى إلى توسيع سوقه بضم بلدان جديدة إليه، والثانية تسعى لمنافسة اقتصادية تقليدية تفوز هي فيها لأنها الأقوى، ولا يمكن للأوروبيين مجاراتها فيها. ولهذا نراها تتفوق عليهم بالاستثمار في كل البلدان خارج الاتحاد الأوروبي. أما هم، وبرغم محاولة منافستها خارج الاتحاد الأوروبي، فقلما ينجحون. وهكذا ينتشر رأسمال المال الأمريكي في كافة أرجاء المعمورة، أما رأس المال الأوروبي فقليل الانتشار نسبياً خارج حدود الاتحاد الأوروبي.

هذا الفارق في الوزن الاقتصادي بينهما، الناجم عن الفارق في مركب درجة التطور ـ القوة العسكرية، تتكلم عنه الوقائع: إذ في الوقت الذي يستميت فيه الأوروبيون لعقد الصفقات حيثما استطاعوا، نرى الولايات المتحدة تعاقب البلدان التي لا تروق لها سياسياً بمقاطعتها اقتصادياً، ليسارع الأوروبيون من ثم إلى معارضتها سياسياً للحلول محلها.

هذا هو واقع الحال أولاً برغم الاستثمارات الأوروبية العديدة خارج حدود اتحادهم، لكنها هزيلة مقارنة بالأمريكية. وثانياً برغم أن جزءاً من رأس المال الأوروبي مكوّن أساسي من مكونات رأس المال العالمي الموحد، لأن المسيطر على هذا الرأسمال هو رأس المال الأمريكي. وبالنتيجة فالولايات المتحدة تتعامل مع كل بلدان العالم تعاملاً رأسمالياً كلاسيكياً، تأخذ منها كل شئ عبر التبادل اللامتكافئ دون أن تكون مضطرة لتقديم أي مكسب حقيقي لها. أما الأوروبيون فمنطق سيرهم على طريق توسيع سوقهم، بالشكل المحدد أعلاه، يعني أنهم لا يستطيعون الأخذ إلا إذا أعطوا.

هذه الخطوط العامة تدل على أن الولايات المتحدة هي الفاعل الرئيسي في صياغة العولمة على صعيد العالم ككل، أما الأوروبيون فنطاق فعلهم محدود بحدود اتحادهم، وجزئياً في المناطق المحاذية له جغرافياً، ليتكامل الفعلان في صياغة العولمة. لكن هذا التكامل لا يعني تقاسم الأدوار بينهما، بل تنافسهما. وهذا التنافس محكوم بقدرة كل منهما على الفعل: هي تطمح إلى تعزيز تفوقها عليهم، وهم يطمحون إلى تقليص الهوة، أو ردمها إن أمكن. وعلى أساس هذا التنافس يحاول كل منهما تعزيز موقعه حيثما يستطيع، وبقدر ما ينجح يكون نجاحه على حساب الآخر.

بديهي أن ما يوحد الأوروبيين والأمريكيين ليس نمط حياتهم، بقدر ما هو المنطق الأساسي لطبيعة العلاقات الرأسمالية الذي يفعل فعله في صياغة نمط الحياة المعاصرة ككل، بما فيه نمط حياتهم. وهذا المنطق هو نفسه الذي يفعل الفعل الحاسم في صياغة العلاقات السياسية على المستوى العالمي الذي يقود، وسيقود حكماً، إلى وحدة الشكل الذي سيتعولم فيه العالم في النهاية. ومع ذلك، ثمة فارق رأيناه بين نهجيهما في تحقيق كل منهما لمصلحته: الأوروبيون يسعون إلى التطور عبر توسيع الاتحاد الأوروبي أكثر فأكثر، والولايات المتحدة تسعى لتكريس التبادل الحر للسلع ووحدة رؤوس الأموال العالمية في مجمل العمليات الاقتصادية الرئيسية في العالم، لأن هذا ما يكرس سيطرتها الاقتصادية على العالم ويقويها. ومثلما أنها تتفهم حاجة الأوروبيين لتوسيع سوقهم ولا تستطيع حيالها شيئاً، كذلك يتفهم الأوروبيون سعيها لأنهم أيضاً لا يستطيعون حياله شيئاً. فهذا التفهم المتبادل ليس تفاهماً بقدر ما هو تعبير عن ميزان القوى الفعلي بينهما، مما يعني أنهم لا يستطيعون معارضتها إلا في المناطق التي يعتبرونها مجالاً حيوياً لتوسع سوقهم في المستقبل، ومنطقتنا إحداها.

لقد طرحت الولايات المتحدة لمنطقتنا مشروع "الشرق الأوسط الكبير". وبرغم العمومية الشديدة التي طرحته بها في البداية، يمكن القول بأن جوهره يتمثل بجعل المنطقة الممتدة من المغرب غرباً إلى باكستان شرقاً، وربما الهند، ساحة اقتصادية واحدة تسودها الديموقراطية. وحددتها شمالاً بتركيا دون أن تحددها جنوباً. ومن الطبيعي ألاّ تمانع من بلوغها اليمن، طالما أن نهجها يفترض التنافس الحر للسلع في الساحة العالمية. لكن هذا الرسم الاقتصادي يتعارض ومصالح الأوروبيين لأنهم أعجز عن منافسة الولايات المتحدة فيه، وبنفس الوقت من مصلحتهم صيرورة هذه المنطقة ديموقراطية. هذا التصادم في المصالح أدى بالنتيجة إلى إفراغ هذا المشروع من محتواه بتخميده، أي عبر عدم اتخاذ أي إجراء عملي ملموس لوضعه موضع التنفيذ. والاتفاق الوحيد الذي توصلت إليه دول الثماني، وتم إعلانه في الرباط، هو ضرورة الإصلاح في هذه المنطقة وتحقيق الديموقراطية. وبنفس الوقت تم التأكيد على أن هذه الإجراءات لابد أن تنبع من الداخل، أي دون التدخل العسكري الخارجي، مما يضمر أن تحقيقها يحتاج زمناً تنطبخ فيه الأمور على نار هادئة.

هذا التأجيل كان طبيعياً طالما أن مصالحهما متصادمة في منطقتنا، لأنه يعطي كلاً منهما فرصة ترتيب أوراقه بما يتناسب ومصالحه فيها على المدى البعيد. وكلمة "طبيعي" هنا تعني أن هذا التأجيل حاجة مشتركة لكليهما. فالأمريكيون أعجز من أن يفرضوا مشروعهم بالقوة الآن، وبالتالي ليس أمامهم إلا التأجيل. والأوروبيون ليس من أولوياتهم دمج أيٍ من بلدان المتوسط باتحادهم الآن، لذا لابد من التأجيل. لكن هذا التأجيل، بغض النظر عما يخفيه، وعما ستكون نتائجه، فإنه يكشف وحدة موقفهما من ضرورة الديموقراطية عندنا. فلماذا يريدانها؟

كانت أولوية الغرب في ظل الحرب الباردة مواجهة الاتحاد السوفييتي، وهاجسه الوقوف ضد حركات التحرر في البلدان المتخلفة التي من الطبيعي أن تضر بمصالحه. لذا لم يكن يأبه بالديموقراطية، بل بدعم الأنظمة المضادة للاتحاد السوفييتي ودعم الديكتاتوريات المنهمكة في الصراع مع هذه الحركات. هذا كان شغله الشاغل في ظل بنية العالم في تلك المرحلة.

هذه البنية التي تولّد هذه الأولويات، من الطبيعي أن تكون غير ملائمة لرأس المال الغربي، لأنها تحد من إمكاناته على الاستثمار خارج بلدانه. إذ أن رأس المال، بعدما يكمل السيطرة على سوقه، يحتاج مناطق أقل تطوراً حتى يستثمر فيها. وبغير هذا يركد،إن لم يأسن. لذا، وحتى يستثمر في البلدان المتخلفة، كان يحتاج إلى الديموقراطية فيها لأنها تعني بالنسبة له الاستقرار وسيادة القانون والشفافية:

· بالاستقرار يضمن طول أمد استثماراته، وبالتالي يضمن ربحها مهما بلغت ضخامة رأس المال الثابت الموظف فيها.

· وبسيادة القانون يكفل سلاسة جريان العملية الاقتصادية، بحيث لا يضطر إلى دفع تكاليف غير محسوبة تؤثر على القدرة التنافسية لسلعه أو خدماته.

· ومن خلال الشفافية يمكنه رؤية أدق تفاصيل مسار العلاقات الاجتماعية عبر رؤيته لاتجاه الاستقطاب السياسي. فهذا الاستقطاب يعكس اتجاه هذه العلاقات، سواء لجهة التأزم أو الانفراج، مما يفسح المجال أمامه للهروب على أعتاب اضطرابها.

هذه العناصر الثلاثة مازالت تحتفظ بكامل راهنيتها من زاوية ضرورة الديموقراطية لرأس المال، وإن طرأت عليها تغيرات طفيفة فلصالحه وصالحها، ولهذا نراها بالعام نقطة تقاطع تامة بين الأوروبيين والأمريكيين. لكن هذه العناصر التي كانت جافة اكتست لحماً وشحماً بعد إسدال الستار على بنية عالم الحرب الباردة، إذ ترسّخت الديموقراطية كضرورة اجتماعية. فرأس المال كرأسمال ما عادت تعنيه الديموقراطية السياسية كشفافية، لأن زمن الثورات الاجتماعية ولّى. وإن كانت تحصل ثورات سياسية، وستحصل هنا وهناك، فلإزاحة العوائق أمامه لا لتهديده. لكن هذه العناصر باتت تعنيه بما تمثله من استقرار في ظل سيادة القانون، الذي لا يستقر المجتمع إلا في ظله.
(يتبع الهدف الأمريكي)

 

 

 

 

 هدف الديموقراطية في سوريا أمريكياً وأوروبياً وسورياً (2)

 

علي الشهابي

مرآة سورية


 

هذه المقدمة ضرورية للتفريق بين نهجي الولايات المتحدة والأوروبيين في تحقيق مصالحهما، وبالتالي لتوضيح الفارق بين ما يريده كلٌ منهما من مطالبة النظام السوري بالديموقراطية. وبما أننا نريد الديموقراطية عندنا، فهذا التفريق ضروري لنا أيضاً لتحديد ما نريده منها، طالما أننا لن نتطور على أساس المواجهة مع هذين النهجين، بل على أساس إعداد العدة لتركيز تعاملنا بشكل رئيسي مع أحدهما. وقد بينت هذه المقدمة أن أساس العلاقة بين الولايات المتحدة والأوروبيين في منطقتنا هو تناقض المصالح، وأن هذا التناقض غير قابل للحل على المدى القريب. فكيف تم التقاؤهما الحالي على ضرورة الضغط على النظام السوري في موضوع الديموقراطية، وخصوصاً أنه تم بمبادرة أوروبية ويخدم النهج الأمريكي؟

نعم إنه تم بمبادرة أوروبية ويخدم النهج الأمريكي. لكن هذه المبادرة لم تتم لخدمة النهج الأمريكي، ولا لتوحد المصالح الأوروبية والأمريكية في المنطقة، بل لأن النظام السوري بالنتيجة أرغم الأوروبيين على هذا السلوك لخدمة مصالحهم. وجرّاء قوة الولايات المتحدة في العالم على كل المستويات، وخصوصاً في منطقتنا، ما كان يمكن للأوروبيين اتخاذ أي إجراء يضغط على النظام لتحقيق مصالحهم دون استفادتها منه. وهذا يعني أن التناقض بينهما في منطقتنا اقتصادي، أما لقاؤهما الحالي فسياسي. وحتى هذا اللقاء السياسي ليس توحداً، بل وحدةً وصراعاً. وبرغم التشابك الشديد بين مجالي الاقتصاد والسياسة، الذي يؤثر في النتيجة النهائية لكل منهما، يظل الاقتصادي اقتصادي والسياسي سياسي. وهذا يضمر أنهما يضغطان الآن سياسياً على النظام السوري بموضوع الديموقراطية لسببين مختلفين، ينطويان على مشروعين متناقضين للديموقراطية، يتقاطعان في نقطة رئيسية واحدة تتمثل في ضرورة الديموقراطية السياسية.

الهدف الأمريكي:
رأينا كيف أن الأمركة ضد مصلحة شعوب البلدان المتخلفة بشكل خاص، لذا من الطبيعي أن تقف ضدها. ويتجلى هذا بشعور عالمي عام يحلو للأمريكيين تسميته "ضد الأمركة"
Anti-Americanism . ومن الطبيعي أيضاً أن تكون هذه الضد أكثر فعلاً حيثما تجد الشعوب بدائل لها، كما هي الحال في سوريا المحاذية جغرافياً للاتحاد الأوروبي. وواقع الحال أن الولايات المتحدة تحاول ترتيب منطقتنا بما يخدم نهجها، علماً بأن نجاحها بهذا الترتيب يفوّت الفرصة علينا وعلى الأوروبيين في صياغة علاقاتنا بما يخدم مصالحنا المشتركة.

ولأن الأمركة ضد مصلحتنا، من الطبيعي أن يقف الشعب عندنا ضدها في حال أتيح له التعبير عن نفسه بحرية. وبالتالي فالديموقراطية التي تحقق للشعب عندنا هذه الحرية ليست من مصلحة الولايات المتحدة، مما يقودها حكماً إلى الوقوف ضدها. وبالمقابل فإن مصلحتها في منطقتنا تتطلب الاستقرار، وهو لا يتحقق إلا بالديموقراطية، وفي هذا تناقض. وهذا التناقض حقيقي لأن أساسيات الولايات المتحدة عندنا متناقضة: من جهة تريد الديموقراطية لأنها ضرورة ملحة في العالم ككل، ولها مصلحة بها بما تعنيه من استقرار عندنا. ومن جهة أخرى لأن نهجها ليس من منطقه تحقيق مصلحتنا، فمصلحتها تتطلب دعم إسرائيل، مما يؤلب شعوبنا ضد نهجها، وهذا يفعل فعله بالاتجاه المعاكس للاستقرار.

أود هنا الإشارة إلى أن هذا التناقض في أساسيات الولايات المتحدة عندنا يفسر تناقض موقف مثقفينا منها، فكل طرف منهما يرى جانباً واحداً من معادلتها. لكن الولايات المتحدة تحل هذا التناقض، والأدق تصهر طرفيه، بطريقة تعيد إنتاجه على نحو خلاّق: تنطلق من واقعنا لتفصيل شكل من الديموقراطية خاص بنا، أوصف مواصفاته أنه يحقق شكلاً من الاستقرار وبنفس الوقت يتكفل بلجم حدود حراكنا السياسي بحدود مصالحها. وهذا الشكل هو ديموقراطية الطوائف، وهي تحقق شكلاً من الاستقرار لسببين:

1. تتيح متنفساً سياسياً يتنفس فيه المجتمع الصعداء. فالمجتمع الذي لم يعرف الديموقراطية السياسية قط، سيهلل لمجرد وجود الأحزاب وتنافسها وذهابه إلى صناديق الاقتراع ..إلخ.

2. لأن هذه الديموقراطية سترتكز على الحوامل الطائفية والعشائرية القائمة في مجتمعنا، وستتفاعل معها إيجابياً لجهة تكريسها، لذا ستبدو طبيعية لكونها ستظهر بمظهر النابعة من طبيعة مجتمعنا.

وليس أدل على طبيعية مظهرها الذي ستظهر به من قيام قطّاع واسع من المثقفين بالتنظير لها، والدفاع عنها باعتبارها نتاجاً طبيعياً لمجتمعنا. مما يضمر أنها لا يمكن القفز فوقها، وهاهم ينظّرون لها من الآن بذريعة الواقعية. فالديموقراطية، باعتقادهم، لن تفعل شيئاً في مجتمعنا في البداية إلا أن ترفع الغطاء عما يعتمل فيه من تناقضات لتعبر عن نفسها بحرية. ومن هذا المنطلق تصير الديموقراطية الطائفية عندهم، سواء صارت دستورية أم بقيت مجرد عرف، ممراً إجبارياً للمجتمع على طريق الديموقراطية الحقيقية. وهذا يعني تماماً أن علوية السلطة طائفية لأن ما تحوزه هذه الطائفة من سلطة في المجتمع لا يتناسب ونسبتها العددية، أما سنيّة السلطة فديموقراطية باعتبارها الطائفة الأكبر بالمطلق. وعلى هذا الأساس يصير النضال ضد الطائفية عند هؤلاء مجرد نضال ضد السلطة الديكتاتورية التي أسست للطائفية أو كرّستها، أما النضال ضد كل الطائفيين فغير وارد على جدول أعمالهم الراهن لأنه يضعف وحدة الجميع ـ بمن فيهم طائفيو الطوائف الأخرى ـ ضد السلطة الديكتاتورية.

بشديد الاختصار، بعدما سقطت الأيديولوجية التغييرية لهؤلاء المثقفين، صاروا محافظين تحت ستار الواقعية. ولهذا صار الواقع يطرح مهمة الصراع ضدهم كجزء من صراعه ضد بناه المتخلفه، لأن ديموقراطيتهم الطائفية هذه قد تكون ضرورية في سوريا، وهي فعلاً ضرورية، من زاوية تكريس الواقع الطائفي العشائري المتخلف. أما من زاوية السير على طريق بناء المجتمع التعاقدي الملتحم سورياً، باعتباره مجموعة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، فإن هذه الديموقراطية الطائفية ليس فقط غير ضرورية بل النضال ضدها هو الضروري.

هذه الديموقراطية التي ستحقق الاستقرار، وخصوصاً بهذا الغطاء الأيديولوجي لهؤلاء المثقفين، ستلجم الحدود السياسية لمجتمعنا بحدود التوازن الطائفي، هذا الذي من منطقه أن يظل يستدعي الخارج حتى يظل يتوازن. وهذا الخارج إما الدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل، أو من الطوائف الأخرى في البلدان المجاورة. وأي دعم يخل بهذا التوازن سينذر بالحرب الطائفية، علماً بأن الطرف الوحيد القادر عملياً على تقديمه هما الولايات المتحدة وإسرائيل. فهذه الحرب قد تحدث، ولكن ليس بالضرورة، لكن التهديد الأمريكي بها سيظل سيفاً مسلطاً على رقبة المجتمع ككل، وخصوصاً على رقبة الحزب السياسي للطائفة المسيطرة وزعاماتها التقليدية ليظلوا يتجاوبوا مع متطلبات النهج الأمريكي.

هذه الديموقراطية الطائفية هي الديموقراطية الأمريكية، وهي حكم بالإعدام على النظام السوري لأنه أعجز من أن يتجاوب ومتطلباتها. وهذا الحكم يوضحه مجمل تعامل الولايات المتحدة معه: كلما تأزمت مشكلة في المنطقة، كلما قامت عبر التهديد والوعيد بمطالبته بضرورة القيام بكذا. في حمى الحرب على الإرهاب، عليه أن يكف عن الإرهاب. وفي حمى التنكيل الإسرائيلي بالشعب الفلسطيني، عليه أن يكف عن رعاية المنظمات الإرهابية، وألا يشجع العمليات الانتحارية ولو إعلامياً. وبعد غزو العراق وانطلاق المقاومة، عليه أن يضبط حدوده، وبعد ضبطها عليه أن يكف عن إيواء رجالات النظام السابق ويمنع حتى تسريب الأموال. أما بخصوص حزب الله فحدث ولا حرج.. وفي حمأة ضرورة الديموقراطية في سوريا، عليه أن يكف عن الديكتاتورية.

صحيح أن النظام السوري له علاقة بكل هذه الأمور، لكن المشكلة بشقها الرئيسي ليست عند النظام، بل بالنهج الأمريكي. فالولايات المتحدة ليس فقط تؤيد إسرائيل حتى بتنكيلها بالفلسطينيين، بل تطالب النظام السوري بمساعدتها فيه عبر مطالبتها له بالتضييق على تنظيماتهم. والأمر من هذا أنها تطالبه بذلك في ظل كون الشعب الفلسطيني هو الضحية، وروابطه بالشعب السوري معلومة للجميع. أضف إلى ذلك أنها تطالبه بذلك في ظل استمرار احتلال إسرائيل للجولان، ودعمها لها عملياً فيه.

أما بخصوص العراق، فتقوم باحتلاله برغم أنف المجتمع الدولي. وحتى تعطي لغزوها مظهر "التحالف الدولي" تبذل جهوداً دبلوماسية حتى مع بلدان مثل هندوراس والفلبين، وتقدم لها إغراءات مادية كي ترسل ولو خمسين جندياً إلى العراق. أما النظام السوري فتتعامل معه بلغة الأمر: على النظام أن يسد المنافذ على المقاومة فوراً، وإلا فمصيره كمصير نظام صدام.

إذا كانت كل شعوب العالم وحكوماته ضد التنكيل الإسرائيلي بالفلسطينيين، الذي بلغ حداً بات فيه عاراً على جبين الإنسانية، وإذا كانت معظم شعوب العالم وحكوماته ضد البلطجة الأمريكية في العراق، باعتبارها مجرد سطو مسلح على النفط، فلماذا يجب على النظام السوري مساعدة إسرائيل والولايات المتحدة فيهما؟ وهل هذه المساعدة رغبة الشعب السوري التي تكبحها ديكتاتورية النظام؟!
فنهج الولايات المتحدة هذا يجعل ديموقراطيتها عندنا عبارة عن أنياب، وأن يصير الشعب السوري ديموقراطياً بمقتضاها يعني أن يصير فريسة لها، ولهذا نرى مطالبتها بها في سوريا تفعل فعلها لجهة تكريس الديكتاتورية. فمعظم الشعب السوري يرفض تأييد نهج الولايات المتحدة في فلسطين والعراق وفي موضوع الجولان، ومن حقه أن يفهم أنّ مطالبتها بالديموقراطية عندنا مطالبةً بتأييد نهجها في التعامل مع قضاياه ومجمل قضايا المنطقة. إذ لو أنها تريد الديموقراطية غير الطائفية لعمدت إلى حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي بحلول وسط تقبل بها كل الأطراف، وهذا لم يكن عسيراً عليها قط منذ انهيار المنظومة السوفياتية. فهذا الحل هو ما يمهد الطريق أمام طرح كافة المشكلات الداخلية على بساط البحث، وأهمها استحقاقات الديموقراطية.

لكنها مازالت ضد ولوج هذا الطريق، ولهذا لا تبالي بعروض النظام السوري السلمية. وحتى لو كانت هذه العروض تكتيكية، فإنها قادرة على إرغامه على جعلها حقيقية لو أرادت، لكنها لا تريد. وإن كنا نراها تضغط الآن لحل المشكلة في الأراضي الفلسطينية، فلعدة أسباب لا علاقة لها بتغيير نهجها، بل بتلميع صورتها في ظل استمرارها بنفس النهج. هذا ما تبينه الحقائق:

1ـ بعدما أنهك الصراع في الأراضي المحتلة الفلسطينيين والإسرائيليين، باتت إسرائيل تخطط للانسحاب من غزة التي شكّل احتلالها ومازال مشكلة لإسرائيل. فهذا الانسحاب يزيل عبئاً عن إسرائيل، وبنفس الوقت يحسن صورتها الدولية التي ساءت جداً، وخصوصاً بعد اجتياح شارون للضفة الغربية عام 2002.

2ـ بما أن هذا الانسحاب خطة إسرائيلية بالكامل، فإن إسرائيل تحاول تنفيذه بطريقة تأخذ بعين الاعتبار إمكانية اضطرارها مستقبلاً لجعله جزءاً من انسحابات لاحقة، قد تفضي إلى قيام دولة فلسطينية، تريدها إسرائيل وقتئذٍ مقطّعة. وكل الضغط الأمريكي الحالي على إسرائيل منصب فقط على هذه المسألة الجزئية جداً، على ضرورة أن تعمد إسرائيل إلى جعلها متواصلة. وهذا كله قليل الأهمية من منظور الوضع الراهن، لأنه مرهون بكيفية جريان الأمور في المستقبل، وليس هناك من يضمن أو ما يضمن جريانها بهذا الاتجاه أو ذاك.

فبهذا التدخل تظهر الولايات المتحدة بمظهر الضاغط القوي على إسرائيل، مما يوهم بتغيير نهجها، الأمر الذي يسهم في تجفيف منابع الإرهاب الذي يغذيه نهجها. وبالتالي فإن نفس الولايات المتحدة، التي لم تغير نهجها، تضغط على النظام السوري في موضوع الديموقراطية. كيف نفهم هذا التناقض؟

ليس في هذا أدنى تناقض، لكنه يبدو تناقضاً للوهلة الأولى. فلو أنها تضغط على النظام ليصير ديموقراطياً فعلاً، لكان هذا تناقضاً فعلاً. لكنها لا تضغط عليه بهذا الاتجاه، بل يتركز كل ضغطها على التنديد بديكتاتوريته. فكل خطاباتها عن ضرورة الديموقراطية في سوريا عبارة عن "تهويش ديموقراطي"، عبارة عن استغلال لهذه النقطة عند النظام باعتبارها نقطة ضعفه الأبرز. فبهذا الضغط تحقق هدفاً مزدوجاً: من جهة تدفع باتجاه إسقاطه لصالح ديموقراطيتها الطائفية، وبنفس الوقت تؤزمه جراء أزمتها في العراق. فبهذا التأزيم تطمح إلى دفعه إلى المزيد من تضييق الخناق على المقاومة العراقية على أمل أن تقوم واشنطن بتخفيف ضغطها عنه، دون أن تكون مضطرة لهذا التخفيف.

فأولى أولوياتها في المنطقة الآن استقرار العراق، أي حصد نتائج غزوها له. ومهما تكن خلافات الباحثين على أسبابه، فيكادوا يجمعون على أن السيطرة على النفط أحد أهم أسبابه، إن لم تكن هدفه الأهم. ولم يتمكن الأمريكيون من الاستقرار فيه، بل باتوا يعدون أنفسهم لحرب طويلة. ويشكل النظام السوري أحد عوامل عدم الاستقرار فيه، لأن استقراره لهم سيقود حكماً إلى القضاء عليه. هذه الحقيقة يعرفها النظام تمام المعرفة، وتعرفها الولايات المتحدة بنفس التمام، حتى يكاد اللعب بينهما أن يجري على المكشوف. وجرّاء الفارق في ميزان القوى بينهما، فقد بدا ناجحاً في التعامل معها بحسب مبدأ "سد الذرائع"، الاستجابة لضغوطها بطريقة تحرمها من إمكانية تأليب الرأي العام ضده، وخصوصاً الأمريكي. وكان بموقع قوي نسبياً في ظل رعاية الأوروبيين له، وخصوصاً في ظل التناقض بينهم وبين الأمريكيين في موضوع العراق نفسه.

فالاتحاد الأوروبي، بثقله الرئيسي، وقف ضد الغزو بقوة شديدة، وبديهي أنه لم ولن يصل إلى حد معارضته بالسلاح، وهو مازال ضده. وتتجلى هذه الضد برفضه مساعدة الولايات المتحدة في العمل على استقرار العراق، لأن هذا الاستقرار يعزز موقعها الاقتصادي والسياسي في المنطقة، والعالم ككل، على حسابه. ومنطق هذا الرفض يعني أن الاتحاد الأوروبي والمقاومة العراقية، بما فيها تنظيم القاعدة، حليفان ضد الولايات المتحدة في العراق: كلٌ منهما، بأسلوبه الخاص وأدواته المختلفة ولأهدافه المختلفة، يحاول إفشال المشروع الأمريكي فيه. واختلاف الأهداف بينهما طبيعي طالما أن منطق التحالف منطق اختلاف الأهداف، لا وحدتها.

وكذا حال النظام السوري، فهو حليف طبيعي لهما لأسبابه المختلفة أيضاً. وعلاوة على ذلك، بحكم محاددة سوريا للعراق، وبفعل العوامل التاريخية المشتركة بين الشعبين، فإن موقفه يفعل إيجابياً ضد نجاح المشروع الأمريكي فيه، على العكس من فعل الأوروبيين السلبي. وهذا ما زاد التوافق بينه وبين الأوروبيين في مرحلة دفعه الخوف من الأمريكيين باتجاه الأوروبيين أكثر فأكثر.

هذا ما كان عليه الوضع حتى فوجئت الإدارة الأمريكية بالموقف الفرنسي الداعي إلى فكرة القرار 1559، الذي جاءها في الوقت المناسب، وعلى طبق من ذهب. فأخذت تهدد النظام السوري، وتطمح بتأييد الأوروبيين لها بما يتجاوز نطاق التهديد. والمشكلة أن النظام لم يدرك حجم كارثة القرار حتى بعد صدوره، وبالتالي لم يشعر بالأرض تميد من تحت قدميه، إلا بعد اغتيال الحريري. فلماذا هذا الانقلاب في الموقف الأوروبي؟