العرب والديمقراطية بين الثورات والتغيير الاستباقي

اكرم البني

14-03-2011

المصدر :الجزيرة

 

 

 

 

لا ينفع تجاهل ما يجري من تطورات وتحولات في عدد يتزايد كل يوم من المجتمعات العربية، ولا يفيد القول بأن موجة المطالبة الشعبية بالتغير والديمقراطية التي تشهدها هذه البلدان لن تشهدها بلدان عربية أخرى.

صحيح أن مصر ليست تونس، واليمن ليس ليبيا، والبحرين ليست الجزائر، وصحيح أن لكل مجتمع خصوصيته ويختلف عن غيره في شكل تجلي أزماته وطابع تفاقمها، وفي إيقاع خطواته نحو الخلاص ونيل الحرية، لكن الصحيح أيضاً أن الشعوب العربية أول المعنيين بما يحدث وأكثر المتأثرين بنتائجه، ليس فقط بسبب ما يجمعها من روابط قومية وجغرافيا سياسية، وإنما أيضاً لتشابه أسباب أزماتها وتماثل ما تكابده وتعانيه من قهر وفقر، وتالياً تقارب طرق الحل والعلاج.

إن تركز الثروة والمال بيد سلطات تحتكر كامل الحياة السياسية ومعظم أوجه النشاط الاقتصادي واستشراء الفقر والقهر والفساد بصورة غير مسبوقة، أفضى إلى تخريب البنى الوطنية وامتصاص طاقة المجتمعات وتدمير خلايا النمو والتجدد فيها، واستدراكاً إخفاق برامجها التنموية وفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية جميعها بما في ذلك تهميش دور هذه المجتمعات في الساحة العالمية، مما وضع الشعوب في حالة تثير الشفقة، وفتح الطريق واسعة أمام ما يحصل من انتفاضات وثورات، تقول ببساطة إن هذه المنطقة من العالم لم يعد باستطاعتها الاستمرار بالصورة التي هي عليها، وإنه بات من الملح الشروع في التغيير وإرساء قواعد الحياة الديمقراطية في العلاقات القائمة بين السلطة والدولة وبينهما وبين المجتمع.

لقد جربت الشعوب العربية كل الخيارات الأيدولوجية والسياسية، كالأيدولوجية القومية الاشتراكية والأيدولوجية الدينية، وتلك التي قاربت الماركسية في بعض أشكالها. وجرب بعضها الدوران في فلك الاتحاد السوفياتي السابق، والتحق بعضها الآخر بالقاطرة الأميركية التحاقاً تاماً. وكانت النتائج مخيبة للآمال، فلا الأرض تحررت ولا حدثت النهضة ولا أنجزت الوحدة الموعودة، ولا ارتقى الإنسان إلى مجتمع العدالة والحرية والرفاهية.

ونظرة متفحصة إلى ما صارت إليه أوضاعنا، تسقط الكثير من الأوهام الأيدولوجية المعششة في الأذهان، وتكشف في الوقت ذاته جذر المشكلة وأنه يتكثف أساساً في انعدام الثقة بالإنسان ودوره، إلى غياب الحريات والتعددية السياسية، إلى مناخ الاستبداد والفكر الوصائي الذي ساد أمداً طويلاً ودفع بالتجارب كافة إلى طريق مسدود.

في الماضي أهملت الديمقراطية واتجه الفعل السياسي العربي بصورة رئيسية نحو مسألتين، تعلقت الأولى بالوطن والقومية، وبالأخص القضية الفلسطينية وبناء الوحدة العربية، وارتهنت الثانية بالبعد الاجتماعي والتطلع نحو مجتمع العدالة والمساواة والقضاء على الاستغلال، لكن أحوالنا اليوم تبدد هذه "الصور المغرية" وتكشف زيف الشعارات الوطنية والاجتماعية التي فاقمت أزماتنا وأمراضنا، لينهض مشروع الانتقال إلى الديمقراطية بصفته خياراً لا غنى عنه لمواجهة تردي الأوضاع العربية وتدشين مرحلة حقيقية تمكن البشر من تقرير مصيرهم وبناء حياة جديدة.

وفي الماضي أيضاً ورداً على الانعكاسات التي خلفتها التحولات التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية، وكي يهرب مناهضو التغيير الديمقراطي من استحقاقاته، بالغوا في عرض الصعوبات والإرباكات التي عانت منها تلك المجتمعات في مخاض بحثها عن حريتها، وكرامتها لتخويف الناس من أي تبديل أو تحول نحو الديمقراطية، وتالياً لتسويغ استمرار الوضع القائم.

وعندما جاءت النتائج عكس ما كانوا يروجون، اندفعوا عن سابق تصور وتصميم إلى طمس النتائج الايجابية التي حققتها الشعوب هناك، وقد نجحت بخيارها الديمقراطي في تجاوز حالة الترهل والركود ومعالجة أهم السلبيات والمثالب التي وسمتها طيلة عقود، ليبدأ هؤلاء البحث عن فزاعات جديدة، بعضها مستمد من مآسي التجربة العراقية وآلامها، للاستمرار في ترويع المجتمعات من التغيير الديمقراطي، مرة بالطعن في أهلية هذه المجتمعات لتقبل الديمقراطية والتلويح بالفوضى والاضطرابات التي سيستصحبها برأيهم أي تغيير! ومرة بإشاعة ثقافة معادية للديمقراطية على أنها بدعة استعمارية، وتشويه سمعة دعاة الإصلاح والحرية بذريعة الاستقواء بالخارج وارتباط أجندتهم بمشاريع أجنبية مغرضة! ومرة ثالثة بتخويف الشعوب العربية من خطر وصول الإسلاميين إلى السلطة، ومن حالات القمع والتضييق على الحريات العامة وحقوق الإنسان التي ترافق نمط حكمهم، كذا!!

 

لكن ثورات اليوم والانتفاضات الشعبية العربية قدمت إجابات معاكسة وأثبتت بالملموس هشاشة هذه الذرائع، وأن لا صحة للحجج السياسية التي استخدمتها الأنظمة لضمان شرعية استمرارها، فلم يعد يقنع أحداً شرعية الأمن ولا مقاومة الخارج ولا التهديد بالإسلاميين أمام فظائع الفساد والاستبداد، مما ساعد على تنامي يقظة الشعوب ودرجة تحسسها لمصالحها، وشجعها على التحرك دفاعاً عن حقوقها وحرياتها، بدأت بثورتي تونس ومصر ولحقتهما ليبيا ثم اليمن والحبل على الجرار.

وهنا إذ لا يصح استنساخ هذه التجارب ونقل صور الحراك الشعبي من بلد إلى آخر، لكن ثمة مشتركات تفرض نفسها بقوة على كافة المجتمعات العربية وتضع أصحاب القرار والمسؤولية عند مفترق طرق ولنقل أمام خيارين:

الأول- الإصرار على الدفاع عن الوضع القائم وتمرير الزخم الجماهيري الراهن بالممانعة والمماطلة في إجراء أي تغيير جدي، على أمل تفادي هذه الموجة التي تعتبر برأيهم طارئة وعابرة، بما في ذلك محاصرة أي مشروع للتحرك باندفاعات قمعية واسعة غرضها إحكام الضبط والسيطرة الأمنية، والاستمرار في خنق هوامش الحراك الثقافي والسياسي المحدودة أصلاً.

وهذا الخيار يحمل في أحشائه مخاطر جمة، فإن نجحت عصا القمع في الماضي في الرد على حراك البشر وأجهضت الكثير من مبادراتهم لنيل حريتهم وحقوقهم، فهي عاجزة في عالم اليوم عن إنجاز هذه المهمة، فقد ولت سياسة تجميد المجتمع بترويعه، ولم تعد تنفع طريق القمع والإرهاب في إسكات الناس وشل دورهم، وما نشهده اليوم يدشن مرحلة جديدة عنوانها العريض انتزاع الوصاية على مجال السياسة من أصحاب القوة والجبروت ووضعها بين أيادي الشعب!!

فلم لا نريد أن نتعلم من محن الماضي وتجارب الآخرين كي ننأى عن عثرات وأخطاء دفع ثمنها باهظاً؟! وألم يتأكد الجميع بالملموس أن أكبر عنوان لتخلفنا هو عندما ذهبت مجتمعاتنا منذ فجر الاستقلال حتى اليوم إلى اعتبار الديمقراطية شعارا غريباً عن ثقافتنا العربية، واختارت معاداتها ومواجهتها بأنظمة لا تؤمن بالتعدد السياسي والحوار والتشارك، بل تمارس -على نقيض من ذلك- الجبروت والطغيان والظلم؟!

وهذا يعني أن ثمة كارثة حقيقية تنتظرنا في حال استمرار الوضع القائم وإحجام الأنظمة عن البدء بإصلاحات سياسية واسعة تنقل المجتمعات من عالم الاستبداد إلى الديمقراطية، ولا يستبعد أن يفضي تأجيل هذا الاستحقاق إلى انفجار الأزمات المتراكمة بصورة مريعة، وأن تسفر حالة الممانعة عن التغيير والانفتاح إلى ثورات قد لا تحمد عقباها أو انهيارات واسعة لن يرحم التاريخ مسببيها!!

الثاني- وهو الخيار الأفضل للمجتمع، لكنه الأصعب على الأنظمة الحاكمة ومصالح بعض المتنفذين فيها، ويقوم على تعاطٍ عقلاني مع الواقع والتفاعل مع اتجاهات تطوره تحسباً من أن تصل الأمور إلى حافة الهاوية، وذلك باستثمار الوقت الضائع، لكن هذه المرة ليس من أجل تقديم بعض الرشى للناس لتخفيف حدة معاناتهم الاجتماعية والاقتصادية، كما شهدنا في عدد من البلدان العربية، من زيادة أجور وإعطاء منح وقروض ميسرة وتخفيض أسعار سلع أساسية ومحاربة بعض وجوه الفساد، بل المسارعة صوب مهمة مركزية ينظمها خيط واحد هو إجراء إصلاحات ديمقراطية جدية وجريئة تنزع صواعق التفجير الداخلي، بدءاً من تخفيف حضور القبضة القمعية ودرجة استئثارها بالثروة والأنشطة السياسية والاقتصادية، انتهاءً بضمان حقوق الناس وبصورة خاصة حرياتهم السياسية.

إذا كانت الإصلاحات التي ينشدها المجتمع تعني انفتاحاً واسعاً وجريئاً على الشعب وقواه الحية وتفضي في نهاية المطاف إلى إزاحة حالة التسلط والاحتكار عن ساحة النشاط السياسي وإرساء قواعد العمل الديمقراطي، فإنها لا تزال تتأرجح عند غالبية الأنظمة بين حل مشكلاتها الخاصة وبين امتصاص تأثير ما يحدث من تطورات بأقل تكلفة ممكنة، وتنحو في أحسن الحالات نحو صياغة مهمات تجميلية، لا تمس جوهر السيادة السياسية، ويراد منها تحسين أداء مؤسسات الدولة المترهلة وتجديد قوى النظام وتخفيف حدة الاحتقان الاجتماعي ولو إلى حين.

فأي قيمة نوعية لمواجهة الفساد وتردي الأوضاع الاقتصادية إذا نظرنا إليها كظواهر وأمراض متفرقة، ولم نقرأها كنتائج ومخلفات متنوعة لداء رئيس تكثّفه سيطرة مستديمة أدت إلى تكبيل الإنسان وقضت على روح المبادرة والإبداع لديه؟! وأي معنى لتغيير ديمقراطي يقتصر على إجراءات فوقية متفرقة أو تعديلات جزئية هنا وهناك، مرجئاً القيام بإصلاحات شاملة -سياسية واقتصادية وإدارية وقضائية- تعالج جدياً أمراض المجتمع المختلفة وتختصر دورة آلامه؟!

ومع أن الكثيرين نفضوا أياديهم من السلطات القائمة وفقدوا الثقة بدورها في التغيير بعد مراوحة في المكان دامت سنين وسنين، فإنه لا ضير الآن من التذكير بأن المهمة الملحة والمجدية أمام الأنظمة العربية للخروج من أتون الأزمات الراهنة هي السير قدماً نحو الانفتاح الديمقراطي على الناس وقواها الحية، بما يعني التطلع إلى تقديم تنازلات جريئة على صعيد حقوق المواطنة والعدالة وسيادة القانون، وإعادة صياغة مصادر الشرعية لا بفعل القمع والشعارات الطنانة بل على أساس نيل رضا الناس لما تقدمه من ضمانات حول حرياتهم وعيشهم الكريم، وتالياً القبول بالتعددية والاختلاف كمقدمة لا غنى عنها لصياغة عقد اجتماعي متوازن يوفق بين منازعات بشر تتباين همومهم ومصالحهم ويضمن للجميع حقوقهم على قدم المساواة في المشاركة السياسية وإدارة الشؤون العامة.

وإذ نعترف بأن وسائل التغيير ووتيرته وآفاقه تتعلق بخصوصية كل مجتمع وتالياً بتنوع أنماط الحكم وتمايز مصادر شرعيتها، يصح تصنيف النظم السياسية القائمة في البلدان العربية إلى نمطين يتوزعان بين النظم الجمهورية والنظم الملكية، لكن الجامع بينها مع حفظ المسافات والتباينات هو ضعف قوامها الديمقراطي بصورة عامة، وتتفاوت درجة الضعف بين نظم تعادي أبسط مظاهر الحياة الديمقراطية بغياب أدنى حقوق الإنسان وحرياته وهي الأغلب عدداً، وبين أخرى يتمتع إنسانها ببعض حقوقه وحرياته.

وتالياً إذ تختلف هذه النظم بين بعضها من حيث شدة أزمتها وإلحاح حاجتها للإصلاحات، فإنها معنية من حيث الجوهر بهدف واحد هو إعادة إنتاج مصادر شرعيتها، على النحو الذي تلغى فيه المصادر الديماغوجية، لتحل محلها الشرعية الديمقراطية المستمدة من الرجوع إلى الناس ومن التوافق الوطني العام. ولعل عنوان هذا التحول هو إسباغ المعاني الجمهورية على النظم الجمهورية بتحريرها من أساليبها التسلطية، وأيضاً تحويل النظم الملكية إلى ما يشبه الملكيات الدستورية لتنشيط تفاعلها مع الدينامكية الاجتماعية والسياسية واستحقاقاتها.

تقول الشعوب العربية في ثوراتها إن القادم -أياً كانت حيثياته- أفضل مما تعيشه حاليا، فحصاد الشعارات البراقة طيلة عقود لم يكن إلا الهزائم والانكسارات ومزيداً من التردي والفساد وقهر الإنسان وإفقاره. وتقول أيضاً إن التغيير -أياً كانت صوره وأدواته- مغامرة تستحق أن تخاض للخروج من هذا المستنقع الآسن وفتح صيرورة جديدة، لعل أهم ما فيها تقدم دور الناس في تقرير مصيرهم وصياغة مستقبلهم دون إقصاء أو وصاية من أحد!!