ولمـاذا لا أغـير رأيـي..؟
منذ سبعة أسابيع خلت، نشرت كتابا جديدا ضمنته وجهة نظري المناوئة
للحرب في العراق. وقد كتبت فيه قائلا إنه وعلى الرغم من حقيقة أنني
دافعت في البداية عن التدخل العسكري الأميركي في العراق، بل لقد قمت
بالتوقيع على رسالة بهذا الخصوص بعد وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر
بوقت وجيز.. فإنني قد غيرت رأيي منذ ذلك التاريخ.
ولكن هذا النوع من الاعترافات الصريحة محظور على ما يبدو. فخلال
الأسابيع التي مضت منذ نشر كتابي وحتى الآن، فإنني عورضت، وهوجمت،
وتعرضت للسباب من طرفي الطيف الأيديولوجي الأميركي على حد سواء.
إن ما يبدو لي، هو أنه في سجالنا السياسي الذي يزداد استقطابا
باستمرار، أصبح من الخطأ أن يقوم المرء بتغيير وجهة نظره، حتى لو توفرت
له أدلة عملية من الواقع، تبين له أنه يجب أن يقوم بذلك. والحقيقة أن
هذا الاستنتاج الذي توصلت إليه غريب.. بل ومزعج في الحقيقة.
وللتاريخ، فإنني أقول إنني قد غيرت رأيي في السنة التي سبقت الحرب
على العراق وليس بعد غزوه. ففي عام 2002 أدليت بتصريح لصحيفة «التايمز»
اللندنية قلت فيه: «إن استخدام القوة العسكرية لدفع الديمقراطية في
العراق إلى الأمام يعد مقامرة كبرى».
وفي الذكرى السنوية الأولى لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، كانت الحجة
التي عرضتها في ثنايا مقالة لي في «واشنطن بوست» هو أننا يجب ألا نقوم
بغزو العراق إلا بعد الحصول على موافقة من مجلس الأمن الدولي.
أما فيما يتعلق بالتوقيت الذي حدث فيه تحولي الفكري بالضبط، فإنني
أرى أن ذلك أمر لا يجب على أن أعيره أية أهمية. فحتى لو افترضنا أنه قد
جاء متأخرا عن التاريخ الذي ذكرته بعام أو عامين، إلا أنه لم يمثل من
وجهة نظري تراجعا جبانا أو إبراء للذمة، ولكنه كان تعبيرا عن رغبة
واقعية وصادقة لمواجهة حقائق الموقف الجديدة.
في رأيي أنه ليس هناك ما يدعو كائنا من كان للاعتذار عن قيامه
بمساندة التدخل الأميركي في العراق قبل الحرب. السبب الذي يدعوني لهذا
القول هو أنه كانت هناك في ذلك الوقت عناصر أخلاقية متصارعة على جانبي
السجال السياسي الأميركي، وهو شيء لا يزال كثيرون في «اليسار» يرفضون
الاعتراف به.
ففي عام 1999، أعلنت الأمم المتحدة أن جميع الأمم ملزمة بواجب أخلاقي
يدفعها للعمل الإيجابي من أجل الدفاع عن، والترويج لحقوق الإنسان وهو
ما كان يعني في الحقيقة أن دول العالم القوية ستعتبر متورطة في
انتهاكات حقوق الإنسان، إذا لم تستغل قوتها في إزالة المظالم. والسجال
الذي دار في ذلك الوقت لم يكن من الواجب أن يكون حول: هل الإطاحة بصدام
حسين أمر أخلاقي أم لا؟، ولكنه كان يجب أن يدور حول سؤال: هل من الفطنة
القيام بذلك أم لا؟
لقد كان أمرا مشرفا تماما أن يقوم المرء في ذلك الوقت بالتساؤل في
حسرة عن الحكمة التي دعت إلى شن تلك الحرب، كما كان من الأمور الباعثة
على الإعجاب ـمن نواح عديدة- أن يقوم أشخاص من تيار «اليسار» مثل
«كريستوفر هيتشينز» و«جورج باكر» و«مايكل إيجناتايف» و«جاكوب وايزبرج»
بتأييد الغزو. كان من الأسهل الدفاع عن هذا الموقف في بدايات عام 2003
(مقارنة بالوقت الراهن). ولكن يتعين علي مع ذلك أن أوضح أننا قبل أن
نكتشف أنه لا يوجد في العراق أي مخزون من المواد الكيمياوية
والبيولوجية على الإطلاق، ولا أي دليل على وجود برنامج قائم ومستمر
لإنتاج الأسلحة النووية، فإنني كنت أعرف أن الكثيرين في «اليسار»،
كانوا يؤمنون بأن التقديرات التي أذيعت قبل الحرب عن ترسانة صدام من
أسلحة الدمار الشامل ما هي إلا عملية تزوير متعمدة قامت بها إدارة بوش.
كان من الأسهل علينا أيضا في ذلك الوقت (مقارنة بالوقت الراهن) أن نقوم
بدعم الحرب، وذلك قبل أن نعرف الأبعاد الكاملة للتمرد الشرير الذي كان
مقدرا له أن يبرز فيما بعد، وكذلك السهولة التي يستطيع بها هؤلاء
المتمردون تخريب بناء دولة ديمقراطية في العراق.
أما في السنوات التي تلت ذلك، فإن «اليمين» هو الذي لم يستطع أن
يتوافق مع الحقائق غير المريحة، التي تمثلت في العجز عن العثور على
أسلحة دمار شامل، وإنجاز انتقال سريع إلى دولة ديمقراطية مستمرة،
وانتهاك حقوق المساجين، وكذلك الدعايات الصحفية السيئة التي تصاحب عادة
أي احتلال ممتد. وقد اعترفت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس مؤخرا بأن
الولايات المتحدة قد ارتكبت أخطاء تكتيكية عديدة، ولكنها أصرت مع ذلك
على أن القرار الاستراتيجي بخوض الحرب لا يزال حتى الآن قرارا صحيحا
مثلما كان كذلك دائما.
ولكننا أصبحنا نعرف الآن العديد من الحقائق التي تضع هذا السبب
الاستراتيجي الجوهري موضع المساءلة.
فمجموعة مسح العراق قشض «عقدثغ
Gقخعح
والمؤسسة العسكرية الأميركية، قامتا بالإفراج عن مئات الوثائق عن برامج
أسلحة الدمار الشامل العراقية قبل الحرب، والتي تبين أن صدام حسين كان
يقوم بإقناع كبار قادته أنه يمتلك قدرات لأسلحة دمار شامل، في الوقت
الذي كان يعرف أن ذلك كله أمر وهمي تماما.
إن المنطق الذي يقف وراء تغيير موقفي قبل الحرب بشأن غزو العراق قد
تم تأكيده من جهتين. فأنا من جهة أرى أن حركة «المحافظين الجدد» التي
كنت منتميا إليها قد أصبحت مرتبطة ارتباطا وثيقا بسياسة فاشلة، وأن
الأحادية، وتغيير الأنظمة قسرا لا يمكن أن يشكلا أساسا قويا لسياسة
خارجية أميركية فعالة.
كثيرون لاحظوا أن حالة الاستقطاب الآخذة في التزايد باستمرار في
السياسات الأميركية، قد ألقت بظلالها على القنوات الإخبارية والبرامج
الحوارية التي أصبحت تخاطب جمهورا ذا قاعدة إيديولوجية ضيقة، كما أنها
انعكست أيضا على مجلس النواب الأميركي الذي حصر نفسه في قواعد انتخابية
محلية، يجد فيها عدد قليل من الأعضاء أنفسهم مضطرين إلى مخاطبة ناخبين
متنوعي الآراء.
إن هذا النوع من الاستقطاب قد تعاظم بفعل حرب العراق: فالكثيرون في
اليسار الآن لا يعتبرون أن الحرب كانت خطأ كارثيا في السياسة، وإنما
كانت مؤامرة إجرامية مع سبق الإصرار والترصد. أما «اليمين» فهو يطعن في
وطنية هؤلاء الذين يشككون في الحرب.
وهذا النوع من الاستقطاب يفعل ما هو أكثر من ذلك، كما يؤثر على حزمة
من المسائل الأخرى المعقدة منها: إنك لا يمكن أن تكون «جمهوريا» طيبا
إذا ما كان موقفك يتعلق مثلا بالبحث عن حلول لظاهرة الإحماء الحراري..
أو أنك لا يمكن أن تكون ديمقراطيا طيبا إذا ما ساندت موضوع حرية
المدارس في الاختيار، أو موضوع حسابات الضمان الاجتماعي الخاصة. لقد
تحول السجال السياسي في الولايات المتحدة إلى رياضة للمشجعين، يقوم
فيها هؤلاء المشجعون بالتهليل للفريق الذي يحرز أهدافا دون أن يقفوا
ليسألوا أنفسهم: هل اختاروا الفريق المناسب أم لا؟
بدلا من محاولة الدفاع عن المواقف الاستقطابية الحادة التي تم
اتخاذها منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، فإنه كان سيكون من الأفضل كثيرا،
لو استطاع الناس حقا استيعاب المعلومات الجديدة، والتفكير حول مسألة
كيف أن تعهداتهم السابقة، التي اتخذوها بأمانة وصدق، تتفق بالفعل مع
الحقيقة ـحتى إذا ما تطلب ذلك منهم في بعض الأحيان القيام بتغيير
آرائهم.
@ أستاذ الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جون هوبكنز ومؤلف
كتابي«نهاية التاريخ»و«أميركا في مفترق الطرق: الديمقراطية والسلطة
وميراث المحافظين الجدد».
لوس أنجلوس تايمز |