سورية والدور الغائب

 

أكرم البني

صفحات سورية


نقف أمام مفارقة كبيرة وربما نوعية عند قراءة اختلاف الدور السوري بين ما سمي حرب عناقيد الغضب عام 1996 وبين الحرب الإسرائيلية المحتدمة اليوم ضد لبنان، وقتئذٍ كانت دمشق أشبه بقبلة لوزراء خارجية الدول صاحبة القرار العالمي والإقليمي، كان عندها الحل والربط، وعلى يدها تقررت النتائج السياسية وشروط وقف إطلاق النار الذي عرف "بتفاهم نيسان" مانحاً حزب الله مشروعيته كمقاوم لتحرير الشريط الحدودي المحتل وحق الرد على المستوطنات إن بادرت إسرائيل وقصفت مدنيين لبنانيين!

في ذلك الزمان لم يكن المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير قد رأى النور، وكانت إدارة البيت الأبيض مهتمة أكثر بهضم نتائج حرب الخليج الثانية وما أسفرت عنه التطورات السياسية بعد تحرير الكويت، مجددة وعدها بحل القضية الفلسطينية وبسلام عادل وشامل ومؤكدة عهدها للنظام السوري بالحفاظ على دوره الإقليمي وبخاصة في لبنان.

كانت بقايا الدور الروسي لا تزال حاضرة ولها بعض الفاعلية، وإيران تعتكف على معالجة أزمتها الداخلية وما خلفته سنوات الحرب، وتتهيأ لانتخابات بدا فيها تنامي التيار الإصلاحي لافتاً، وكانت الأنظمة العربية لا تزال معنية بتحسين صورتها الوطنية والقومية بعد وقوفها الى جانب التحالف الغربي ضد صدام حسين وقد أحرجها ربط احتلاله للكويت بتحرير فلسطين وتلك الصواريخ التي أطلقها نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة. والأهم أن البيت اللبناني كان متحداً وقد وقفت حكومته، على رأسها رفيق الحريري، صفاً واحداً دعماً للمقاومة ومن أجل تحرير الجنوب المحتل، بينما تختبر إسرائيل خطواتها الأولى بعد اغتيال رابين لتغدو حرب عناقيد الغضب كما لو أنها ورقة انتخابية أقدم عليها شيمون بيريز على أمل أن يمنحه نجاحها شعبية كان في أمس الحاجة اليها لمواجهة خصمه اللدود نتنياهو.

اليوم، تختفي معظم معالم الصورة السابقة وتتغير الاصطفافات والمواقف بصورة تثير الدهشة، فأميركا وقد هزمت صدام حسين واحتلت العراق تسعى بكل الوسائل لفرض رؤيتها عن شرق أوسط جديد، والأهم هو ما تلقته من دعم أوروبي للتحرر من قواعد اللعبة القديمة ومن الاعتراف بدور إقليمي للنظام السوري، نجمت عن ذلك قرارات متواترة لمجلس الأمن أبرزها القرار 1559 الذي فرض انسحاب القوات السورية من لبنان.

ثم في مقابل انحسار الدور الروسي وتراجع فاعليته تتقدم إيران بسياسة خارجية نشطة بعد وصول طرف متشدد الى السلطة غرضه مراكمة القوة العسكرية وتحديداً النووية واستثمار صلاته المذهبية لتحسين وزن بلاده وقوتها في المنطقة واستعادة ما يعتبره دوراً مفقوداً! الأمر الذي شجع عدداً من الدول العربية وخاصة مصر والسعودية على ربط ما يجري في لبنان مع المطامع الإيرانية فسارعت لرفع الغطاء نسبياً عن حزب الله بتحميله مسؤولية ما حصل.

في الوقت الذي انقسمت فيه صفوف اللبنانيين بين من انجرف وراء حزب الله ودعم مواقفه أياً تكن النتائج، وبين أكثرية متنوعة طائفياً تقودها حكومة السنيورة تعمل تحت عنوان عريض هو بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية ونزع أي سلاح خارج قبضتها، وقد ظهر النظام السوري ضعيفاً وعاجزاً عن المبادرة بعد خروجه العسكري من لبنان واشتداد حالة الحصار والعزلة عليه.

لا يحتاج المرء، في ضوء هذه المفارقة، الى كبير عناء، كي يجيب عن سؤال لماذا غاب الدور السوري وأهمل التعاطي معه في الحرب الدائرة والتطورات السياسية المرافقة، ليبدو الأمر هذه المرة وكأن ليس ثمة من يبحث عن فرصة لمشاركة النظام السوري في ترتيبات وقف إطلاق النار وما يليها، أو إعادة الاعتبار نسبياً لدوره كعامل مساعد على استقرار المنطقة، وليبدو تواتر الدعوات الرسمية السورية لإشراكها في المشاورات والمباحثات المقبلة أشبه بمحاولة لإيصال الصوت الى المعنيين على أمل أن تساهم مسارات الحرب في تغيير قناعتهم الجديدة ويسلمون مرة أخرى للنظام بدور ما في المعادلة اللبنانية، وأنه لا يزال يملك بعض المقدرة للتأثير بمجرى الأحداث من خلال وكلاء متعددي الاتجاهات والمواقع.

لكن القناعة الأميركية والأوروبية على شطب الدور الإقليمي السوري وتخليص النظام مما جاهد لبنائه طيلة عقود، أمر إذ يرجعه البعض لدافع انعدام الثقة به نتيجة تجربة طويلة وانقلابه على غير فرصة أعطيت له لم يثبت فيها رغبة صادقة وقدرة على التكيف مع ما حصل من مستجدات، يرجعه آخرون الى انحسار مقدرته على التأثير بالعناصر الفاعلة في المنطقة، بما في ذلك حزب الله، وبدرجة ثانية حركة حماس، حيث تبدو إيران هي الطرف الأقوى والأقدر على إدارة هذه العملية وضبط هذه القوى عند اللزوم، في ضوء حالة من انعدام التكافؤ في العلاقة بين إيران وسورية وتباين حاجة الطرفين وغرضيهما منها.

فإيران، وهي في موقع الهجوم، تستثمر تحالفاتها على أفضل وجه لإدارة سياسة طامحة ونشطة عالمياً واقليمياً، بينما يضطر النظام السوري وهو موقع الدفاع لتوظيف علاقاته من أجل تخفيف شدة الحصار والبحث عن مخارج لأزمته المتفاقمة. خاصة وأنه بالفعل قد أضاع فرصاً ذهبية لإعادة إنتاج موقعه وحضوره الإقليمي والتكيف مع ما حصل من مستجدات إقليمية وعالمية من خلال إصراره على الطرائق والعقلية القديمة ذاتها في فرض هيمنته وتأكيد دوره، ففرط بخيار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، كما أضاع الورقة اللبنانية بتمنعه عن بناء صلات مميزة وندية مع لبنان قابلة للحياة والاستمرار، والأهم إهمال الوضع الداخلي والعودة الى الأساليب الأمنية لضمان السيطرة، وعدم التطلع لبناء مجتمع حر معافى، دونه لا يمكن مواجهة التحديات أياً تكن!

لكن وبرغم الحال التي وصلها الدور السوري في هذه المرحلة والسعي لاستبعاده تماماً من ما يسمى حلاً نهائياً بين لبنان وإسرائيل، كما تدل المداولات الجارية في مجلس الأمن لإصدار قرار وقف النار، ينبغي القول إن مثل هذا الحل لن يجدي نفعاً وسوف يبقى على الأرجح، حلاً جزئياً وناقصاً، طالما لم يكتمل بالسعي لنزع فتيل الصراع العربي الإسرائيلي، أو، قولاً واحداً، حل المعضلة الفلسطينية وإعادة الأراضي المحتلة في حرب عام / 1967 /، إذ بغير ذلك ثمة ارتياب قائم على طول الخط من أن تفضي مثل هذه الحلول الجزئية والمؤقتة الى تمرير مرحلة انتقالية هي أشبه بهدنة أو فرصة ينتهزها كل طرف لتحسين وزنه وقواه ومواقعه والتهديد بتفجير الأوضاع من جديد، وتالياً استمرار الدوران في حلقة مفرغة من الآلام والمعاناة للجميع!

لقد حان الوقت أن تنحو معالجة الصراع العربي الإسرائيلي نحو الحل الشامل كطريق لا غنى عنها لإنهاء التوتر المزمن في المنطقة، خاصة وأن التجارب الملموسة برهنت مرة تلو المرة على فشل الحلول المرحلية أو الجزئية، وأن ما كابدته مختلف الأطراف المعنية طيلة تاريخ طويل من الصراع المفتوح يشجع اليوم أكثر من أي وقت مضى على خوض غمار اتفاق سلام شامل، من دونه يصعب بناء الثقة ومعالجة مخاوف كل الشعوب والخروج من الأزمات المتراكبة ودوامة العنف المتصاعد.

 

كاتب سوري