قراءة في إعلان دمشق

مروان حبش


 

يبقى الشغل الشاغل لكل وطني هو البحث الدائم عن الأسس التي تدعم صون الوطن وحماية استقلاله وسيادة شعبه على كل مقدراته ، ومن هذا المنطلق دأب المهتمون بالشأن العام في البحث عن الصيغ التي تتحقق بها تلك المقولات ، وأصبح الأمر ملحا في هذا الوقت حيث المخاطر تهدد الوطن : أرضا وشعبا ، من تهديد أمريكي – صهيوني يومي ، ومن بعض أشخاص من الداخل  بدأوا الهرولة للاستعانة بالخارج < العدو > على وطنهم ، وكما يبدو فإن من هرولوا إليه يعرف بأنهم من مقطوعي الجذور أو لا منبت لهم في التربة الوطنية .

إن كل مواطن يدرك منذ سنوات عديدة بأن صيغة النظام القائم عفا عليها الزمن وأصبحت عائقا أمام أي تطور وتقدم وكما تصادر الحاضر فإنها تصادر المستقبل في عصر أصبح فيه التقدم يقاس بالثواني والدقائق ، ومن هذه الوقائع جاء إعلان دمشق ، مطالبا بالتغيير في وقت أصبح فيه التغيير ضرورة توازي ضرورة الحياة نفسها ، وهذه الضرورة بقدر ما ستكون في مصلحة الوطن فإنها ستكون أيضا في مصلحة السلطة التي يوكل إليها قيادة الوطن .

إنني كالكثيرين غيري من قدامى البعثيين ومن القوى والشخصيات القومية والوطنية < ولا تعارض بين القومي والوطني > نعي تماما حقيقة الواقع وما لحق بالوطن من تدمير  وبالشعب من انحدار في سلم قيمه ومفاهيمه ، ولا يمكن الخروج مما نحن فيه إلا < بمهمة تغيير إنقاذية > يقر أسسها مؤتمر وطني للحوار ويقوم بها الشعب بكل قواه ، كما ورد في الإعلان ، ولا يمكن إلا أن أكون من مؤيدي الأسس الأخرى التي نص الإعلان عليها مثل : إقامة النظام الديمقراطي التعددي ، ونبذ كل الصيغ الإقصائية والإستئصالية والوصائية وأساليب العنف في العمل السياسي ، وضرورة صياغة دستور يستوعب المستجدات ويكرس صيغة المواطنة كقيمة حضارية بكل ما تعنيه هذه القيمة من حق الحياة وحرية الرأي والاعتقاد والتعبير وتكافؤ الفرص في حدود القانون الذي يعطي في كل صياغاته المقام الأول للحرية .

أما ما يثير الريبة في الإعلان المذكور هو ابتعاده عن ذكر الهوية القومية للشعب العربي في سورية وأن سورية جزء من الوطن العربي ، وأنا كمنتم إلى الأمة العربية لم أجد لي موقعا في نصوصه، وإذا لم يكن قد وضع لمصلحة مجموع الشعب فإن التساؤل الذي يبقى واردا هو : من يخاطب هذا الإعلان ؟ أم أن الدولة الحديثة والعقد الاجتماعي الجديد – حسب موقعي الإعلان – سيلغي انتماءنا العربي ؟ وأحب أن أذكرهم هنا ببيان رائع دبجته أقلام ثلاثة من الأعضاء المؤسسين لمؤتمر باريس 1913 وهم شكري غانم و ندرة مطران و شارل دباس ليتوجه به أعضاء المؤتمر المذكور إلى الأمة العربية : ( علمنا نحن العرب المقيمين في باريس مما نشرته الصحف ومن تصريحات بعض الحكومات أن قرارات دولية اتخذت بشأن سورية جوهرة الوطن وبشأن سائر البلدان العربية وهذا ما أهاب بنا لأن نجتمع ونتداول فيما ينبغي عمله لإنقاذ وطننا الذي تهدده المطامع الأجنبية بمضاعفة قوتنا وتنظيم إدارتنا على اللامركزية وبالحؤول دون وقوع بلادنا فريسة الاحتلال . وبهذا وحده يمننا أن نثبت للأمم الأوربية أن الأمة العربية تشكل وحدة اجتماعية حية وغير قابلة التجزئة تحتل بين الأمم مركزا خاصا بها وتتمتع بوضع سياسي من الطراز الأول وبقوة يحسب حسابها ) . وعندما قيل أن الجامعة العربية مستعدة لحماية مسيحيي الشرق كتب جبران تويني < الجد > في جريدته النهار ( ليس نصارى الشرق بحاجة إلى حماية فقد كنا عربا قبل النصرانية والإسلام ....) .

مع التأكيد الدائم بأن الإسلام وحد العرب وجمع كلمتهم وأن العروبة إذا جردت من هذا الدين لا يبقى منها شيء ، ولكن الدولة لا يجب أن يقام كيانها على أساس ديني او إثني ، بل على أساس الشعور بالانتماء النابذ لأي شكل من أشكال التعصب .

إن الشعب السوري غني بتنوعه الديني والمذهبي والإثني ، وإن هذا الغنى ، بتسامحه - مصدر قوة للوطن ، ولم تمارس الأكثرية الكبيرة للشعب أي نوع من انواع الاضطهاد على الآخرين ، ولذا أستغرب ما ذكر في الإعلان < القضية الكردية > ، وفي حدود معرفتي هناك مشكلة جنسية تتعلق ببعض المواطنين الكرد في محافظة الحسكة فقط ، ومع تأييدي المطلق بإعادة الجنسية لمستحقيها من دون أي تأخير أو مماطلة ووفق أسس تبتغي العدالة ، فإنني أقول ، وفي حدود معرفتي أيضا ، بأنني لم أطلع يوما على أن المواطنين الكرد قد منعوا من افتتاح مدارس خاصة لتعليم لغتهم وتاريخهم ، ولم يسلكوا في ذلك سلوك المواطنين الأرمن والسريان . وأحب أن يعترف المواطن الكردي بهذه الحقيقة ، كما أتمنى أن يعترف بأن تسللا كرديا يوميا - قد يكون مخططا من قبل البعض – من تركيا إلى سورية ، لا بهدف اللجوء الإنساني نتيجة اضطهاد ، بل لأطماع أخرى ، وأن الحزام الأخضر أو الحزام العربي – وانتماء سورية كان وسيبقى عربيا –  كان يهدف إلى الحد من التسلل من ناحية ، وإلى إسكان سكان منطقة الغمر من ناحية أخرى ، وغالبية أراضي هذا الحزام من أملاك الدولة ، ولم يهجر أي من قاطني تلك الأرض لإحلال غيرهم مكانهم ، والأمر الثاني الذي أتمنى أن يستنكره المواطن السوري الكردي هو تلك الخريطة التي تحدد معالم الدولة الكردية في سورية .

ومع احترامي للوعي السياسي لكل من شارك في مناقشات الإعلان ، فإن ما يلفت النظر ، هو أن أهله اعتبروا أنفسهم أنهم قد أذاعوا البلاغ رقم واحد باستلام السلطة وفي البلاغ الثاني أعلنوا للعالم عن التزامهم بجميع المعاهدات والمواثيق الدولية كضرورة للاعتراف الدولي بالحكم الجديد ........ .

أن المنظمات الشعبية والاتحادات والنقابات .....كانت وستبقى من مؤسسات المجتمع المدني وفي إطار الدولة ومرتعا لمنافسة الأحزاب للسيطرة عليها .

إن ذكر المقاومة  كخيار للتحرير ، كان يجب التركيز عليها ، كثقافة وكممارسة تنشرها وتدعمها المعارضة, بدلا من ذكرها بشكل خجول .

إن هذا الإعلان بصيغته التي وردت، يؤسس للاختلاف في المستقبل بين الموقعين عليه ، لأن كل طرف سيمسك  بالفقرة التي وضعت كجائزة ترضية له ، وخاصة ذلك الطرف الذي أصر على عدم إدانة الاحتلال الأمريكي للعراق والسياسة العدوانية للولايات المتحدة على الأمة العربية .

وكما أنه يؤسس للاختلاف ، فإنه يؤسس للعب بوحدة تراب الوطن ، و لتكريس تلك التعابير والمصطلحات البريمرية  التي وردت فيه ، ومع اعترافي بوطنية من صاغه ومن وقع عليه ، يبقى التساؤل الذي يحتاج إلى إجابة هو : لمصلحة من أدرجت ، وما هو الهدف من إدراجها ؟.

إن التوافق لا يكون بالتنازل عن مبادىء وأهداف الأحزاب والقوى السياسية ، وإذا تم ذلك فستلغى التعددية السياسية ، بل التوافق يكون على ما يجمع عليه ، وحبذا لو أن الإعلان بقي في هذه الحدود ، أي التغيير للوصول إلى صياغة دستور يكرس مفهوم المواطنة ويؤسس للدولة الديمقراطية التعددية ، ويكفل الحرية بأنواعها لكل مواطن ويساوي بين المواطنين دون أي تفريق بينهم بسبب الدين أو المذهب أو الإنتماء الإثني ، ويعتمد مبدأ العدالة الاجتماعية كضرورة لممارسة الحرية

و لا يسعني إلا أن أشيد باستعداد موقعي البيان لتقديم التضحيات الضرورية وبذل كل ما يلزم لإقلاع عملية التغيير الديمقراطي وبناء سورية .

وأخيرا ، لا بد من القول ، بأن السرعة في نشر الإعلان قد أفقده كثيرا من العقلانية والقوة ، وكان الأفضل لو تم التشاور حوله ، أو عرضه على قوى وفعاليات وشخصيات تناضل من أجل التغيير وتضاهي قوتها قوة الموقعين عليه ، ولا ذريعة بأن البعض قد لا يوقع عليه ، ولكن هذا البعض يشعر بأنه لم يهمش ، كما أن المعارض الذي تتجذر مواقفه الوطنية في تربة الوطن لا يخشى إذا نشر الإعلان قبل تقرير ميلتس أو بعده .