على بساط الثلاثاء

138

 

يكتبها : حبيب عيسى

 

 

***البيان***

***"في الدعوة للبنيان"***

"مؤتمر قومي"

للربيع العربي

 

 

 

 

 

 

 

 

تحية وتقدير ...

            لا بد بداية ، وقبل الدخول في صلب هذا البيان ، والدعوة التي يتضمنها من توجيه التحية والتقدير للمناضلين من الأخوة والرفاق والأصدقاء الذين ، وبتكليف وإصرار ومتابعة وتوجيه من قبلهم ، يقفون وراء هذا البيان والدعوة لاستئناف مشروع النهوض والتحرر والحرية والتقدم في الوطن العربي ، لقد غمروني خلال الأسابيع المنصرمة بأكثر مما أحتمل من الحب والتسامح والآراء والمقترحات ، واحتملوا قسوة الحوارات ، ووضعوني أمام مسؤوليات ينوء بحملها شخصي الضعيف ، كل ما أرجوه أن يكون هذا البيان وملاحقه قد حقق بعض من الطموح الذي كان يأمله  أولئك الأعزاء الذين شرفوني بهذا التكليف ، والذي جاء في لحظة فارقة من تاريخ أمتنا العربية ، فإذا أدى هذا الاجتهاد إلى نتائج إيجابية فإن الفضل موصول لجميع هؤلاء المناضلين وللذين يلبون الدعوة ويؤسسون لمستقبل عربي مختلف ، وسينالني من ذلك نصيب ، وهذا يكفيني  ، فبالجهود المشتركة والجماعية ، وبالنضال الدؤوب من قبل المعنيين بمستقبل هذه الأمة يمكن بناء مؤسسات سياسية عصرية ديموقراطية في الأجزاء وعلى صعيد الكل القومي العربي تكون الحامل الصلب والمناسب لمشروع حضاري عربي طالت محنته أكثر مما ينبغي ، أما إذا لحق الفشل بهذه المحاولة كما المحاولات العديدة التي تكررت خلال العقود المنصرمة ، فإنها مسؤوليتي في الفشل الذي يضاف إلى المحاولات الفاشلة المسجلة في سجلي الشخصي ، وسأردد ما اعتدت على ترداده سابقاً : يكفيني شرف المحاولة على كل حال .

حبيب عيسى

البيان

"في الدعوة للبنيان"

( 1 )

            في الوطن العربي مفارقة حادة بين ربيع عربي واعد يقتحم برياحه ورياحينه أوكار خفافيش ظلام خيم على الأمة عقوداً ، وبين غياب ملحوظ لمشروع النهوض القومي العربي التقدمي  القادر وحده على تحميل رياح الربيع العربي غبار الطلع بين أزاهير العرب لتثمر أشجار المن والسلوى بعد سنوات من القحط  والعقم والخراب ...

           لقد كان جيلنا الهرم قد وصل إلى الحائط المسدود عبر مسالك ومسارات وأساليب استهلكت أعمارنا وشوهت الأهداف والغايات النبيلة التي اعتقدنا ، أو توهمنا أننا بصدد تحقيقها خلال حقبة زمنية قصيرة ، بل علينا أن نعترف دون مواربة أن مشروع النهوض والتحرير القومي العربي التقدمي هُزم من داخله على يد من خرج من صفوفه ، لنتبيّن بعد فوات الأوان أنهم كانوا ألد أعداء المشروع ، ومخلب القط للنيل منه ،  كانوا ، ومازالوا عليه ، وليس له ... هكذا ، وعلى مدى عقود فتك العرب القوميون ببعضهم بعضاً ، ثم فتكوا موضوعياً بمشروع النهوض والتحرر والحرية والتقدم ، أو على الأصح فتك الأدعياء ، الطغاة ، بالقوميين وبالمشروع معاً ، فضاقت بهم الزنازين والمقابر ، وضاق عليهم الوطن فتشردوا في بلاد الله الواسعة ومن بقي منهم في الوطن بات أسير التجارب الفاشلة التي دفع ثمن الانتماء إليها سجوناً ومنافي ، فبات يدافع عن عناصر الفشل فيها عوضاً عن تقويمها ومراجعتها ، فضاعت الأهداف النبيلة والمشروع التحرري النهضوي ، وبتنا أمام جيل مُستلب مهزوم من داخله بعد أن حطمه ، وحطم أحلامه رفاق الدرب الذين تحولوا إلى أصنام وطغاة وأوكار للفساد والتخريب ، وتبّع لكل ما هو مناقض لمشروع النهوض القومي العربي التقدمي ، من أول عصابات الهيمنة والاستغلال الدولية إلى آخر عصبويات الفتن الطائفية والمذهبية والإثنية في الداخل العربي ...

( 2 )

             ولقد قابل هذا الفشل والاستلاب والعجز والهزائم لدى جيل من القوميين التقدميين العرب على الصعيد الذاتي ، استفشار ، وتغّول ، وتعال من القوى الطاغية المضادة في الداخل والخارج ، فغادرت خنادق الدفاع التي كانت قد حُشرت فيها بفعل إرهاصات الثورة العربية الواعدة ، وانتقلت إلى الهجوم على كل ما هو إيجابي في هذه الأمة ، فاستقر الطغاة على عروش الطغيان بين المحيط والخليج ، واستفشرت عصابات النهب والفساد بتصرفاتها حيث أعلنت امتلاكها للبلاد والعباد ، وباتت أجزاء الوطن العربي تكنىّ بكنية الطغاة الذين يتحكمون بمقدراتها ، وتألهت عصابات الاستبداد فهي وحدها صاحبة القرار في ما يجب وما لا يجب أن يكون ، بل إنها تمنح الحياة لمن تشاء ، وتضع حداً لها لمن تشاء ، وتعقد الصفقات مع من تشاء في الخارج ، فتلتحق بمخططات من تشاء ، وتساوم على الحقوق الوطنية من تشاء ، وتتنازل عن السيادة الوطنية لمن تشاء ... فانتفخت أوداج الطغاة وزبانيتهم حتى عاثوا في البلاد فساداً ونهباً وتخريباً ، يمنحون قوى الهيمنة الخارجية كل ما تطلب ويؤدون لها فروض الطاعة والولاء والتبعية والاستخذاء في مقابل أن تطلق أياديهم القذرة الملطخة بالدماء والعار والغدر في الداخل فيحطمّون النسيج الاجتماعي ويعتدون على إنسانية الإنسان وينتهكون قيم المواطنة والحقوق والكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة وينشرون قيم النفاق والولاء والطاعة والعماء والفساد الأخلاقي والمادي فينحطوّن بالمجتمع إلى مراحل ما قبل المواطنة من صراعات وفتن وتوحش وقتل وثأر ولصوصية وأجرام وعصبيات عرقية وإقليمية وأسرية وطائفية ومذهبية ...

( 3 )

            أمام هذا التغّول العام من عصابات الطغيان في القمع والفساد والتخريب ، وبمواجهة تخريب النسيج الاجتماعي الذي أدى إلى سيادة العلاقات العصبوية من طائفية وعرقية ومذهبية ، ومن قمع وتحطيم للأحزاب السياسية وشرذمة لكوادرها وارتداد الكثير منهم  إلى علاقات ما قبل المواطنة ، وما قبل السياسة ، وانزواء العديد منهم بدواعي الخوف والقمع أو العجز و الاّ جدوى ، وتحّول الانتماء الإيديولوجي إلى غطاء شكلي رقيق لسياسات عصبوية وكنتونية ، حتى رأينا التحاق بعض المقموعين والمساجين  بقامعيهم وسجانيهم ، وعنصريات طوائفهم ومذاهبهم وإثنياتهم ... ، هكذا ، مع استفحال هذا الواقع المر ، والعبثي الذي استفحل ، وفي غياب تام للتنظيمات السياسية والحزبية ، خرج علينا جيل عربي شاب من وسط هذا الرماد كالمارد ، جيل لم يعد يطيق خوف الآباء ، وكم الأفواه ، لم يعد يطيق الصمت والنفاق والخوف وحياة الهوائم ، ليفجّر ثورة لم يتوقعها أحد ، ويلقي حجراً في هذا المستنقع العربي النتن ، جاءت هذه الثورة من حيث لم يحتسب أحد ، فكيف يثور شباب غير منظمين ؟  لا أحزاب ؟ ،لا أيديولوجيات ؟ ، لا قائد كاريزمي ؟ ، لا إمكانيات مادية ؟ ، لا قيادة من أي نوع ؟ ،  كيف يثور شباب على أجهزة من القمع تحصي أنفاس الناس وتبطش بوحشية لا تحتملها حتى الكائنات غير البشرية ؟ ، هكذا كانت المفاجأة صاعقة للعناصر الرئيسية الثلاثة المعنية بما يحدث في الوطن العربي وهي :

 1 –  نظم الاستبداد .

 2 –   قوى الهيمنة الخارجية .

 3 – بقايا وشراذم المعارضات العربية .

( 4 )

                  1 - أول من صعقته مفاجأة الربيع العربي ، كانت عصابات الاستبداد والطغيان والفساد التي صحرّت المجتمع العربي ، واستفادت من تجارب الطغاة عبر التاريخ البشري ، وحتى أحدث ابتكاراتهم المعاصرة لتجعل من احتمالات "ربيع عربي" تقترب من الصفر ، فاستقرت تلك العصابات على عروشها ، بعد أن سحقت المجتمع ، واستلبت إرادة الإنسان ، وأقامت ممالك الصمت ، وحيث لا أحزاب ، ولا قوى منظمة ، ولا إعلام ، ولا رأي ، فمن أين جاء هؤلاء ؟ ، ظن الطغاة للوهلة الأولى أنها هوجة ، وسيتم القضاء عليها بسهولة ، لكن بعض الظن أثم ، فكان ظنهم كذلك بالفعل ، وعندما استفحل أمر الثورة في قرطاج ادعى المصدوم الأول انه بدأ يفهم ، لكن تبيّن أنه تأخر كثيراً في الفهم ، فما كان عليه إلا أن يهرب ويختفي ، ولم يتعظ شركاؤه الطغاة في الوطن العربي ، فمنهم من قضى ، ومنهم من دخل الزنازين ، ومنهم من يقامر تحت شعار : إما أنا أو الطوفان ، ومنهم من ينتظر ، ومنهم من يحاول تلمس السبل للالتفاف على هذا الربيع العربي المفاجيء بتحسينات شكلية في السلوك ، وهكذا  ...

( 5 ) 

                    

           2 - الربيع العربي كان مفاجأة صاعقة أيضاً لقوى الهيمنة الخارجية بما في ذلك عصاباتها الصهيونية التي كانت تنام على حرير ، فالطغاة التابعين كانوا قد طوروا أجهزة القمع والتحكم بالشعوب تحت إشراف مباشر من أجهزة قوى الهيمنة الدولية وبتوجيهاتها ، وبالتالي قبضة الحكام على الشعب العربي محكمة ، وكل من الحكام يتحرك تحت السقف المسموح به ، وتحركاته محسوبة في المجال المحدد له ، وبذلك كانوا أكثر كفاءة من العصابات الصهيونية ذاتها ، وقد نجح الحكام على مدى النصف قرن الأخير باستثمار توحشهم الأعمى على المجتمع في الداخل والذي ترافق بطاعة عمياء لقوى الهيمنة الدولية ، فالتمرد ، أو حتى التردد في الالتزام بالمخططات الخارجية المرسومة غير مسموح فيه ، وبالتالي مصالح الكارتلات والاحتكارات الخارجية كانت مؤمنة في الوطن العربي على طول الخط ، لكن تلك القوى الخارجية الطاغية القوة والإمكانيات ارتبكت عندما فاجأتها الثورة ورياح الربيع العربي بعد أن كانت قد فقدت الكثير من قوتها بفعل أزماتها الداخلية ، كما أن ما حدث ويحدث في الوطن العربي كان مفاجأة بكل المقاييس ، فقوى الهيمنة الدولية ليست أمام تمرد حاكم مغضوب عليه من شعبه ، وليست بمواجهة انقلاب عسكري ، وليست بمواجهة تمرد جماعة حزبية أو "إرهابية" لترسل طائراتها وأساطيلها ، وليست بمواجهة زعيم تحاول احتوائه أو حتى اغتياله ، وإنما بمواجهة جموع شعبية غفيرة غريبة عليها احتلت الساحات والميادين لا تنتظر الأوامر من أحد لا في الداخل ولا من الخارج ، والخارج هذه المرة لا يعرف العنوان ، لكن قوى الهيمنة الخارجية ، وبفعل خبراتها المتراكمة حاولت أن تتعامل مع المفاجأة بحكمة علهّا تنجح في احتواء هذا الربيع العربي ، بل ، واستثماره في مخططات بديلة قد تكون أكثر خطراً على الأمة العربية ، وأكثر صلاحية على المدى الاستراتيجي ، هكذا حاولت قوى الهيمنة الدولية استيعاب الصدمة الأولى عبر خطوة أولية تمثلت بتوجيه نصيحة ، تحولت إلى شبه أوامر حازمة للحكام بهدف تحسين سلوكهم لتمرير العاصفة ، ثم لكل حادث حديث ، لكن تبيّن أن الحالة المرضية العقلية والسلوكية للحكام قد تفاقمت ، وبات سلوكهم عصي على التحسين ، ففشل هذا الحل مع الكثيرين وإن كان البعض منهم قد انصاع ، انتقلت قوى الهيمنة الدولية بعد ذلك للبحث عن البدائل من داخل أجهزة الاستبداد لكن رياح الربيع العربي بدأت تعصف بأجهزة الاستبداد أيضاً ، مما أدى إلى الفشل في هذا المضمار أيضاً ، فانتقلت أجهزة الهيمنة الدولية إلى استعادة الهيبة عبر تفعيل نظريات المؤامرة التي تعتمد على إحباط جذوة الثورة والتشكيك بجدواها عبر ادعاء أن كل ما يجري في هذا العالم محكوم بمخططات وإرادة قوى الهيمنة الدولية ، فالحكام من صنعها والثورة عليهم صنيعتها ، وأنه لا ربيع عربي ولا يحزنون ، وأن كل ما يجري محسوب ، وأن الشباب العربي الذي فتح الصدور للرصاص ينفذ مؤامرة دولية محكمة ، كل هذا في محاولة يائسة لاختراق الثورة ، والالتفاف عليها واحتوائها وتشويهها بادعاء أنها صنيعتهم ، وأنهم هم من يدعم الثورة خاصة بعد أن تبين استحالة إنقاذ الطغاة ، وعندما بدأت هذه المحاولة تتهاوى بفعل تصاعد واتساع ساحات الربيع العربي انتقلت قوى الهيمنة لاستخراج المخططات الاحتياطية الجاهزة والتهديد بأن البدائل لنظم الاستبداد سيكون حروب أهلية في الأجزاء لتجزئة المجزأ ، وأن الواقع العربي سيكون أكثر سوءاً وتخلفاً وفتناً وفساداً مما سيدفع الثوار الذين أقلقوا راحة الطغاة ومراكز رعايتهم الدولية إلى الندم بتقديم الاعتذار وولاء الطاعة للطغاة والتماس السماح للشعب بالعودة إلى الاستنقاع والخضوع الآمن تحت أحذية الطغاة ، أو الاتجاه إلى الفوضى ، لكن تماسك النسيج الاجتماعي العربي رغم المرارة بدأ يُسقط هذه المحاولة أيضاً ، وإن كانت مخاطرها قائمة ، لكن قوى الهيمنة الدولية لم تستسلم بعد ، ولا نعرف ماذا بقي في جعبتها ؟ ، لكن المؤكد أنها بدأت تتخلى عن الطغاة في المواقع التي باتوا فيها آيلين للسقوط ، وتتمسك بهم في المواقع الأخرى ، والمؤكد أيضاً أنها بدأت تنتقل للعمل بين صفوف الثوار في محاولة للاختراق والاحتواء والتدجين ، ولعل هذه المرحلة تكون من أخطر مراحل "الربيع العربي" ، فبقدر ما يتمكن الثوار من تحصين مواقعهم وسد منافذ الاختراق والاحتواء والانحراف بقدر ما يستكمل الحلم العربي مسيرته باتجاه النصر .

( 6 )

3 – من المفارقات التي لا نجد سابقة تاريخية لها أن المعارضات التقليدية ، أو ما بقي منها على شكل شلل ومجموعات وأفراد في الوطن العربي فاجأها الربيع العربي أيضاً لأنه جاء من خارج أطرها ومن حيث لا تتوقع بينما كان يجب أن تكون هي من خطط ونفذ وتقدم الصفوف ، فوجدت نفسها في حيرة من أمرها ، هل تلتحق ؟ ، هل تتفرج ؟ ، هل تنخرط ؟ ، هل تراجع نفسها ؟ ، هل تنتهز وتركب الموجة ؟ ، وكيف ؟ ، هل تنتظر لينجلي غبار المعركة بين الشباب الثائر ونظم الاستبداد تحت شعار التروي والحكمة ؟ ، هل تشكك بما يجري وتنسبه إلى المؤامرة الكونية القادرة وحدها على الفعل ؟ ، هل تلتحق بخطاب نظم الاستبداد لأن البديل قد يكون أخطر ؟ ، هل تذهب مع الشارع حيث يريد للتخلص من الاستبداد ثم لكل حادث حديث ؟ ، هل تنتهز الفرص ففي الشارع ثورة لا رأس لها وهي تعتقد أو تتوهم أنها الرأس المناسب ؟ ، هل تقفز إلى الصفوف الأولى  ؟ ، هل تلتحق في الصفوف الخلفية ؟ ، فإذا فشلت الثورة تبقى في مأمن ؟ ، هل تكتفي بدور المعلم والموجه فتلقي المواعظ وتنظرّ لما يجب ، ولما لا يجب أن يكون ؟ ، وبذلك تحافظ على مكانتها ، إذا فشلت الثورة تقول أن مرّد الفشل يعود لعدم أخذ الثوار بالنصائح المحكمة الحكيمة ، وإذا انتصرت الثورة فذلك بفضل التوجيهات الحكيمة ؟ ، ونحن نتفهم ذلك ، فتلك المعارضات تعرضت لقمع عنيف على مدى عقود ومؤسساتها الحزبية التي كانت في طور التكوين تم تدميرها وشخصنتها ، فتحولت إلى شظايا ، وفي أجواء الخوف والرهبة والقمع كانت المراجعات الذاتية وإعادة البناء شبه مستحيلة ، بل تحولت أغلب المراجعات إلى تراجعات ، فانتفت الفاعلية ، وباتت تلك المعارضات تلجأ لتبرير العجز بالمؤامرات الدولية والمخططات المعادية والتخلف الاجتماعي ،  ففشلها ، كما ترى ، ليس عائد لخلل بنيوي في هياكلها وإنما لتعرضها للغدر والاختراق ، فتحولت بفعل ذلك من معارضات إيجابية تقرأ الواقع وتراجع ممارساتها وأساليبها وتبدع برامج جديدة وتولي وجوهها شطر المستقبل إلى معارضات ماضوية تجترّ تجاربها الفاشلة وتنخرط في نزاعات وصراعات داخلية تمتد من الصراع داخل الخلية الواحدة ، إلى الصراع بين القوى المختلفة التي من المفترض أن تتحالف لتحقيق الأهداف المشتركة ، فباتت مستلبة الإرادة تفتقد أي شكل من البرامج للتغير ، وفي أحسن أحوالها تنتظر هذا التغيير من الغيب ، أو من قوى خارجة عنها ، أو تبث اليأس بأبدية الأوضاع الراهنة ، وأن لا سبيل للتغيير ، وأن الذين يحاولون التغيير هم مجرد مجاميع من المغامرين ، وفي ظل مثل تلك الظروف التي تتميز بالعجز عن الفعل وافتقاد الأدوات والوسائل للنضال الإيجابي يتم التشكيك بجدوى أي فعل جماعي فتنتفخ الذات وتنقلب المعادلة من ذوات تتوحد وتتآلف في إطار جماعي لإنتاج فعل جماعي قادر على تحقيق الأهداف الاستراتيجية ، إلى التفرد ، وتورم الذات الفردية لتكون هي الأساس والغائية الاستراتيجية تستمد قيمتها موضوعياً من التحاقها بتلك الذات إنها معادلة مقلوبة أدت إلى شخصنة مريضة  أنتجت كم هائل من الزعامات وبالتالي لم يعد المعيار هو الخيار الفكري أو البرامجي أو الايديولوجي  وإنما ينحصر في الولاء لهذا أو ذاك ، فلم يعد المعيار أن تكون يسارياً أو يمينياً ، ليبراليا أو اشتراكياً ،  دينياً أو علمانياً ، قومياً أو أممياً أو إقليميا اشتراكيا أو رأسمالياً وإنما المعيار هو أن تكون من جماعة فلان أو من أتباع علان ، من هذه الشلة المتشرنقة أو من تلك ،  وبالتالي تحولت تلك المعارضات من أدوات للتغيير إلى مصادر للتيئيس والعطالة ، فتحولت من معارضات إيجابية تبني وتوحد وتهيكل الجهود الفردية لتصب في نضال جماعي فاعل إلى عوامل تفتيت وخلافات شخصية وافتعال معارك حول مواقف من أحداث عفا عليها الزمن ، وبات الجمع بين أولئك الزعماء الأفذاذ شبه مستحيل ، وهذا يفسر حجم المفاجأة الذي تعرضت له تلك المعارضات المشغولة بسفاسف الأمور والأمراض الذاتية المتفاقمة ، وهي تراقب تحركات هذا الجيل العربي الشاب الذي انطلق من خارج أطرها متجاوزاً كل تلك الزعامات مع أنه يحمل احتراماً دفيناً لتضحياتها ونضالاتها ، وكان يأمل أنه سيفتح لها نافذة في الجدار المسدود الذي لم تعرف لاختراقه سبيلاً ، وستلتحق بالثورة ، فهذا الجيل العربي الثائر يحلم أن يدفع هذه الزعامات إلى المقدمة تصوّب المسار وتضع خبراتها النضالية حيث يجب ، وهذا قد يقرب فيما بينها ويطهرّها من أمراضها الفردية خاصة وأن أولئك المناضلين الذين واجهوا الاستبداد المديد في الوطن العربي يتمتعون بمزايا إيجابية بالغة الخصوبة ، فكوادر المعارضات العربية من أصلب المناضلين في التاريخ البشري لأنهم واجهوا أسفه الطغاة في تاريخ الإنسانية ، فمنهم من قضى في الزنازين ، ومنهم من صمد وغادرها على قيد الحياة  ، ومنهم من تشرد في أرجاء الأرض ، منهم من استسلم لليأس ، ومنهم من احتفظ بالإرادة والحلم بالنهوض والتغيير لكنه لم يعرف إلى ذلك سبيلا رغم المحاولات المتكررة فاعترفت الغالبية منهم بالعجز واستمر البعض بتكرار المحاولات ولو على مبدأ المصالحة مع الذات وعدم الاعتراف بالهزيمة لكن واقع الحال حولّ تلك المعارضات من مشاريع أحزاب ومؤسسات سياسية إلى معارضين أفراد وفي أحسن الأحوال إلى مجموعات متباعدة تتحلق حول هذا الشخص أو ذاك فتم شخصنتها وباتت ُتعرف ليس بصفتها الإيديولوجية أو السياسية ، وإنما بصفتها جماعة فلان أو علان حتى داخل المجموعة الواحدة ، وهكذا ... ، مما كشف هشاشة البنية الفكرية والسياسية حيث كشفت المحنة المديدة للاستبداد عن أن الشعارات حول القومية أو الأممية أو العالمية الإسلامية أو الليبرالية أو الوطنية والمواطنة ليست إلا قشرة رقيقة سرعان ما تشققت وكشفت أن العديد من الكوادر وحتى القيادات في أحزاب قومية أو أممية أو وطنية أو دينية أو ليبرالية نكصوا إلى علاقات ما قبل المواطنة من أول الإثنية أو الطائفية أو المذهبية إلى آخر القبلية أو العائلية ، وتحّول الضجيج حول الإيديولوجيات والعقائد السياسية إلى مجرد مكياج و"برستيج" لتزييف واقع الحال ...

( 7 )

               فمن هم صناع الربيع العربي ؟ ، من هؤلاء الذين أحدثوا المفاجأة ...؟ ، فشقوا عصا الطاعة للطغاة ، لم ترهبهم الأجهزة القمعية ذائعة السيط ؟ ، ولم يخشون أساطيل قوى الهيمنة الدولية وأجهزة مخابراتها وقاذفاتها التدميرية ومخططاتها المحكمة ؟ ، ولم يطلبوا الإذن من الآباء وبقايا المعارضات التقليدية ؟ ، إنهم جيل عربي ولد في ممالك الصمت والخوف والاستلاب والنفاق ، الطغاة والغزاة كانوا فيه يسرحون ويمرحون ، ويسيروّن المسيرات المليونية التي تؤلههم ، والمعارضات التقليدية ، أو ما بقي منها في حالة من الموات والاستلاب ، والذين يخترقون جدار الصمت والطاعة مناضلون أفراد يوصمون بالمغامرين حتى من رفاق الدرب ، ويدفعون أثمان باهظة على الصعد كافة يتحاشاهم الأقارب قبل الأباعد ، وبالتالي يكونون فريسة سهلة لأجهزة الطغاة ، فيودعون السجون دون أن يهتم بهم أحد ، اللهم إلا من بعض نظرات الإشفاق والملامة ، ويا حرام ضحى بمستقبله ومستقبل عياله وبلا فائدة  "فالعين لا تقاوم المخرز " ، في هذه الظروف الموضوعية بالغة البؤس ولد هذا الجيل العربي لأسر ساخطة لكنها تكظم غيظها وتضغط على الأبناء لممارسة النفاق للطغاة وتلبية طلبات مسيرات التأييد والتأليه لهم ، وفي ظل غياب معارضة فاعلة مؤسساتية لها برامجها وفعالياتها ، وتحت سطوة أجهزة تحصي الأنفاس وتقرر طرق العبادات والمعاملات تنصّب من تشاء وتعزل من تشاء وتسجن من تشاء وتقتل من تشاء ، وتساوم على سيادة الوطن من تشاء ، وتتنازل عن الحقوق الوطنية لمن تشاء ، وتنتهك الحقوق الأساسية للإنسان في الخاص والعام ليغدو مهان الكرامة مكره في جميع المجالات يخضع للإذعان في جميع القضايا بلا إرادة ، بلا قرار، يصرخ بالنعم  وهو يكبت إرادته وضميره الذي يؤنبه ليصرخ بلا ، يرفع صوراً وهو يحلم بيوم يدوسها بقدميه ،  وفي ظل رعاية دولية للطغاة مقابل رعاية الطغاة للمصالح الخارجية مما يفضح نفاق ما يسمى المجتمع الدولي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ، كل هذا مع تفتح وعي الجيل العربي الجديد بفعل وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي والإنساني ، ولعل هذا ما ميز الجيل العربي الراهن عن الأجيال السابقة ، إضافة لانسداد الأفق وانعدام إمكانية التغيير من الغير سواء كان من جيل الآباء أو من أية قوى أخرى معارضة داخلية أو خارجية ، إضافة إلى تفاقم حالات الفساد والإفساد والنهب والسفه السفيه ، وغياب تام للقانون والعدالة وانتشار العشوائيات السكنية والاجتماعية وكم الأفواه وانكشاف سفالة الإعلام الرسمي الذي يزيف الحقائق ويكذب في شتى المجالات ، هذا كله وغيره كثير دفع بهذا الجيل العربي إلى التحدي وإبداع وسائل للثورة لم تخطر على بال أجيال سابقة ، صحيح أن هذا الجيل اندفع من بيئات اجتماعية مختلفة ومن بيوتات سياسية يسارية ويمينية ووسطية مختلفة ومن خلفيات فكرية وإيديولوجية ودينية ومدنية وثقافية شديدة التنوع ، وصحيح أيضاً أن هذا الجيل لم يكن موحد الرؤى عن ماذا بعد الطغاة ، لكن الصحيح أيضاً ، أن الاتفاق كان شاملاً إلى حد التطابق بين جميع المتنادين إلى الميادين أن الأوضاع القائمة في الوطن العربي لم تعد تطاق ، وأن الاستسلام لها مذلة ، فكان الشعار "الموت ولا المذلة" ، وكان هذا الربيع العربي .

( 8 )

           هكذا نشر الشباب العربي الجديد رياح الربيع العربي ، فكيف تعاملت الجهات المعنية المشار إليها مع المفاجأة ...

أولاً : كان من الطبيعي أن الأنظمة الاستبدادية التي تلقت الصدمة الأولى صعقتها المفاجأة ، ورحلت ، بينما استعدت النظم الاستبدادية الأخرى في الوطن العربي للمواجهة ، فمنها من زج بكامل عدته وعتاده في ساحة المعركة ومازال يهرب إلى الأمام ، ومنها من واجه رياح الربيع العربي في منتصف الطريق محاولاً البحث عن حلول وسطية ، وتقديم ترضيات تبقيه في السلطة ، ومنها من حاول صّد الربيع العربي بتحويل اتجاهه وحصاره بوصمه بالطائفية أو العنصرية أو المذهبية والأمثلة البارزة كانت في الجزيرة العربية والبحرين والعراق ولبنان والسودان ...

ثانياً : أما قوى الهيمنة الخارجية فكانت أكثر هدوءاً في التعامل مع الربيع العربي حيث بدأت منذ اللحظة الأولى تستغني عن خدمات الطغاة الميئوس من إمكانية استمرارهم ، وتقديم نصائح بتحسين السلوك لمن تبقى ، ومحاولة الظهور بمظهر المدافع عن حقوق الشعوب في مواقع أخرى ، وفي الوقت ذاته البحث عن بدائل ، وطرح المشاريع البديلة والاحتياطية بخلق ظروف موضوعية أكثر فاعلية بتجزئة المجزأ والاعتماد على المخططات الصهيونية بإقامة الدول الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية وافتعال الحروب الأهلية بما يضمن أمن التجزئة وأمن المستوطنات الصهيونية كنموذج للعنصرية يمكن تعميمه على أجزاء الوطن العربي ومازالت دول الهيمنة تحاول الحفاظ على وضع اليد ومازالت تحتفظ بالكثير من الأوراق وهي تأمل في أن تتمكن من احتواء الربيع العربي ووأده لكن المعركة مازالت مفتوحة خاصة وأن رياح الربيع العربي نثرت تشكيلات جديدة من الصعب ضبطها واحتواء حركتها ...

ثالثاً : المعارضات العربية كانت أكثر ارتباكاً فمن جهة لم تصدق ابتداء أن هؤلاء الشباب غير المسّيس ، وغير المنظم ، وغير المعروف من قبل تلك المعارضات يمكن أن ينتصر على أجهزة عاتية وطغاة متمرسين ، كانت تلك المعارضات وبعد عقود من القمع والفشل في التغيير قد ترسخ لديها يقين بأن هذه النظم الاستبدادية في الوطن العربي حلقة من حلقات سلسلة دولية مترابطة تتحكم بمصير العالم ، وبالتالي فأنه لا قبل لتلك المعارضات بإحداث التغيير وحتى لا قبل لأية قوة محلية بذلك إلا إذا قررت القوى الكونية ذلك ، وبما أن تلك المعارضات التي كانت تعتبر نفسها قوى منظمة ومؤدلجة ولديها رموزها ومناضليها وحتى فدائييها قد فشلت أمام تغّول أجهزة الاستبداد فمن غير المعقول أن تتمكن مجموعات من شباب الفيسبوك والمقاهي والأراكيل من اقتحام حصون الطغاة حيث لا أحزاب تنظمهم ولا إيديولوجيات ينتظمون تحت لوائها ولا زعماء كاريزميين يقودون المسيرة ، لكن عندما بدأ ت حصون الطغاة بالتهاوي تغيرت نظرة المعارضات للربيع العربي ، وبدأت تلك المعارضات بالاقتراب من المشهد ومحاولة استثماره ، وفي ظل غياب قوى منظمة ذات وزن كان من الطبيعي أن تطفوا على السطح القوى التي تعرضت للاضطهاد أكثر من سواها في ظل الاستبداد نتيجة التعاطف الشعبي مع معاناتها ، باختصار شديد تعاملت المعارضات التقليدية مع الشباب الذين أحدثوا هذا الربيع العربي على أنهم بدون رأس وتناوب المعارضون التقليديون لتقديم رؤوسهم ، ولم يدرك هؤلاء وأولئك أن هذا الشباب تجاوز رؤوسهم الهرمة المتعبة المنهمكة في صراعات ماضوية لا تعني هذا الجيل العربي الثائر ...  وبالتالي لا بد من مرحلة مخاض قد تطول وقد تقصر بحسب الظروف الموضوعية في كل ساحة لإنتاج مؤسسات سياسية معاصرة تفرز رؤوساً تليق بالربيع العربي ...

( 9 )

              لكن هذا لا يعني أن المعارضات العربية كانت موحدة مما يجري فمنها من انسل بين الشباب ، وبات من نسيج الثورة ، ومنها من حاول سرقة الثورة وركوب موجتها ، ومنها من استمر تحت تأثير الاستلاب والخوف فلم يصدق أبداً أن ما يحدث ربيع عربي انطلق به جيل شاب عفوي لم يعد يطيق العبودية ، وأن كل ما حدث ويحدث يتم بفعل القوى الكونية ذاتها التي كانت ترعى الطغاة ، وهنا كانت المهزلة المأساوية لتلك المعارضات ، فلم يصدقوا أن تلك النظم الاستبدادية التي كانت ترفض الاعتراف بوجودهم طيلة الوقت تدعوهم اليوم للحوار ، أو تتنازل فتعترف بوجودهم وقد تمنحهم بعض المناصب ، وبات بعضهم يردد بغباء : أن الطغاة  ليسوا صنيعة المؤامرة ، وإنما الثورة عليهم هي المؤامرة ؟ ، إنهم بذلك لا يدينون الثورة ، وإنما يدينون أنفسهم وتاريخهم ، فإذا كانت تلك النظم عرضة لمؤامرة كونية من أعداء الأمة ، فقد كان الأجدر بهم أن لا يعارضونها أصلاً ، لكن هناك بعض المعارضات اقتربت من السلطات الاستبدادية تحت تبريرات أخرى ن فمنهم من اعتمد على ضبابية الموقف ، ومخاطر البدائل ، فتلك النظم الاستبدادية كانت قد التهمت مؤسسات المجتمع ومؤسسات السلطة ، وبالتالي فأن البديل من وجهة نظرهم قد يكون هو الأسوأ ، ومن المعارضات من تعلل بعدم معرفة هؤلاء الذين نزلوا إلى الساحات والميادين ، وإذا كان القذافي قد سأل : من أنتم ؟ ، فبعض المعارضات رددت السؤال : من هؤلاء ؟ ، وإلى أين ؟ ، وماذا يريدون ؟ ، وبالتالي كيف تطالبون أن ننضم لمن لا نعرف ماذا يريدون ؟ ، وهناك من المعارضات من ادعى الحياد بتبرير يقول أنه يرفض ما يفعله النظام المستبد لكنه لا يستطيع أن يؤيد هؤلاء الثوار الذين لا يعرفهم ، ولا أعرف هنا معنى لهذا الحياد ممن يسمى معارضة  ؟ .

( 10 )

             لكن بالمقابل ، هناك من يشكك ويتساءل : هل هناك ربيع عربي ؟ ، وماذا حل بالدول التي سقط عنها طغاتها ؟ ، لقد خسرت الأمن والاستقرار ، ولم تربح إلا الفوضى ، هكذا يرددون كالببغاوات ، ويضيفون : أن المخاطر التي كانت تهدد النسيج الاجتماعي باتت واقعاً معاشاً بفعل هذا الربيع العربي   ، فقد أطلق الطغاة المجرمين الجنائيين من السجون ليهددوا أمن المواطنين واختلط الحابل بالنابل ، والقوى التي برزت على السطح بعد سقوط الطغاة لا علاقة لها لا بالنهوض ولا بالتحرير ولا بالحرية ولا بالوحدة ولا بالمواطنة ولا بالمسماة ولا بالتقدم ولا بالعدالة الاجتماعية ولا بالديمقراطية ولا بالسيادة الوطنية ، وحتى الانتخابات التي وصفت أنها ديمقراطية بالتناسب مع ما كان لم تنتج بديلاً إيجابياً ، ويختصر البعض الآخر الحكاية بالقول : أن كل ما كنتم تخوفوّننا منه من أن الطغاة يسعون إليه ، من أول تفتيت المجتمع والنكوص إلى العلاقات العصبوية ، إلى آخر تدمير النسيج الاجتماعي وقطع الصلة بالحداثة والتطور والتقدم والثقافة والاجتهاد والحرية الفردية والاجتماعية هاهو يحصل في ظل هذا الذي تسمونه ربيعاً عربياً ، وبالتالي ، فلا ربيع ولا عربي وعليكم أن تعلنوا الحداد على عصر الطغاة الذين رحلوا لأن الخلف هو الأسوأ ...

               إن نظرة سطحية لما جرى في الوطن العربي خلال الشهور العشرين المنصرمة قد تعطي أصحاب هذا الرأي سنداً لما يقولون ، لكن التعمق في دراسة الأسباب والنتائج والظروف الموضوعية وتسلسل الأحداث قد يؤدي إلى نتائج معاكسة في تقييم ما كان ، وإلى أين وصل بنا المطاف حتى الآن ، والأهم إلى أين كان سيصل بنا في حال استمرار الحال على ما هو عليه ؟ ، وبالتالي ، هل إسقاط الاستبداد وقطع مسيرته  بالمحصلة النهائية فعل إيجابي أم لا ؟ ، وهل كان استمرار الاستبداد سيأخذنا إلى الأسوأ أم لا ؟ ، وهل مرحلة ما بعد سقوط الطغاة ستنتقل بنا إلى الأفضل أم لا ، ولو بعد مرحلة مخاض قد تكون مؤلمة ؟ ، وهل هناك احتمال ، مجرد احتمال ، للتطور والتقدم والتحرر والحرية والنهوض والتنوير والسيادة والتنمية والعدالة في ظل استمرار حكم الطغاة ؟ ، وهل مرحلة المخاض بعد سقوط الطغاة مهما كانت مخاطرها ستؤدي إلى التطور الاجتماعي وكل ما ذكرناه ؟ ، ثم هل المظاهر السلبية المرافقة لمرحلة ما بعد الطغاة هي من نتاج الربيع العربي ؟ ، أم أنها من فعل الطغاة أنفسهم ؟ ، وأن كل يوم يمر على استمرار حكم الطغاة سيراكم من تلك المظاهر السلبية ، وسيفاقم المشكلات ، وأن وضع حد للطغاة هو خط البداية الذي لا بد من تجاوزه مهما كان الثمن باهظاً للانطلاق باتجاه مستقبل مختلف يتم فيه معالجة السلبيات التي خلفهّا الطغاة ويفتح الأفق لمستقبل من البناء الإيجابي ؟ .

                 أسئلة لا بد من الإجابة عليها ونحن على الطريق إلى الموقف الصحيح مما يجري في الوطن العربي هذه الأيام ، ونحن نتركها برسم جميع المناضلين الأحرار المعنيين بمستقبل هذا الوطن العربي المثخن بالجراح ، وبالفعل أرجو من جميع من يعنيهم هذا الحديث أن يضعوا هذه الأسئلة ويضيفوا عليها ، كل ، ما يشاء ، ويضعون إجابات ، وسيكون الاختبار في منتهى الأهمية في حال تبادل الإجابات وتفاعلها للوصول إلى قاعدة مشتركة ينطلق منها النهضويون العرب باتجاه المستقبل ... ويغادرون المماحكات السلبية حول الجزئيات والاستغراق في التفاصيل مما يؤدي إلى غياب الرؤيا الاستراتيجية ...

             فقط نريد التأكيد على أن المظاهر السلبية التي طغت على مرحلة ما بعد سقوط الطغاة في بعض الأجزاء العربية هي العقابيل والدمامل والأورام السرطانية التي راكمها الطغاة على مدى عقود ، وأن القوى المتخلفة والرجعية التي تتمظهر على سطح الساحة العربية الآن هي صنيعة نظم الاستبداد ذاتها ، وأن تلك القوى المتخلفة هي ذاتها التي نفخ فيها الطغاة لمواجهة قوى النهوض والتنوير ، حيث شكلت مع أجهزة الاستبداد طيلة عقود فكي الكماشة من قمة السلطة ومن قاع التخلف ، فأطبقت على المجتمع وجردته من أدوات تقدمه وتطوره ، وتسابق الطرفان في النفاق  لأحد الفكين ، وإن كان أحد حدي الفكين حاول أن يلتهم الآخر في بعض المراحل ، لكن كان ذلك بهدف منع الاستئثار وليس بهدف الاستغناء عن خدماته ، فكل من الحدين منتج ومستهلك لمنتجات الحد الآخر في الوقت ذاته ، وبالتالي فإن القضاء على الاستبداد شرط لمواجهة أحد أهم إفرازاته ، فالقوى العصبوية المتخلفة هي الوجه الآخر للاستبداد رغم ما قد يبدو من تناقض بين الفريقين ، والشواهد لا تحصى عن استخدام أجهزة الطغاة لعناصر التخلف وتطويعهم ، وعن نفاق عصبويات التخلف لأولي الأمر من الطغاة المجرمين .

                نقول ذلك في مواجهة المشككين بالربيع العربي عن طريق عقد المقارنات المشبوهة بين ما كان في زمن الطغاة ، وبين ما حدث بعد ، فالربيع العربي لم ينتج بعد ثماره الحقيقية ، وأن كل ما جرى حتى هذه اللحظة هو أن الشعب العربي من المحيط إلى الخليج يسترد بالتدريج إرادته المستلبة ، ويسترد وعيه ، ويطارد جلاديه من الطغاة والمتخلفين والغزاة في الوقت ذاته ، ويعبّر عن ذلك بالشعار : "الشعب يريد ..." ، فمنذ عقود كان ممنوعاً عليه أن يريد ، أو أن يعبر عن إرادته ، وهو الآن في مرحلة تنظيف الساحات والميادين ، وهو يدرك أن سنوات الطغيان والظلام والقهر والفساد قد تركت كماً هائلاً من المشكلات والعشوائيات والأورام السرطانية والمآسي ، وأن مواجهتها بعد إسقاط الطغاة والأجهزة القمعية الراعية للفساد والإفساد والتخريب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي سيكون متاحاً للشعب الذي استرد إرادته ...

( 11 )

            بالعودة إلى خصوصية هذا الحديث المتعلقة بالعرب القوميين التقدميين نلحظ أن كل ما قلناه عن المعارضات العربية ومشاريع النهوض والتحرر والحرية والعدالة الاجتماعية يكاد ينطبق على أصحاب المشروع القومي العربي التقدمي مع بعض الخصوصية ، فبعض العرب القوميين التقدميين وجدوا أنفسهم منخرطين في أجهزة أنظمة إقليمية استبدادية ، وبعضهم الآخر تعرض للقمع والتصفية على يد ذات الأجهزة ، وذات الرفاق ، وهكذا نلاحظ أن الذين حملوا مشروع النهوض والتحرير القومي العربي التقدمي وخلال مسيرتهم المضطربة في النصف قرن الأخير قد انحدرت فيهم تجاربهم ، وانحرفت بهم عن الطريق الصاعد إلى الأهداف ، فانحطوا إلى تبرير الاستبداد في الأجزاء ، وساهموا في السقوط إلى قاع المأساة العربية الراهنة ، وعلى يد البعض منهم ، وتحت عباءة شعاراتهم في التحرير والتوحيد والحرية والاشتراكية ، فانطبق عليهم ما قلناه عن المعارضات العربية عموماً مع إضافة سلبية خاصة بهم ، ليس على الصعيد الفكري وحسب ، وإنما على صعيد الممارسة ، فمن خلال التجربة والضرورة وعلى مختلف فصائلهم تبنوا أسلوب النظم الشمولية الاستبدادية الانقلابية الفردية ، ليس على الصعيد الفكري ، وحسب ، وإنما استغلوا الحاضنة الجماهيرية للمشروع القومي العربي في السيطرة على بعض السلطات الإقليمية ، فكانوا الأسوأ على هذا الصعيد فساداً ونهباً وتبعية وتسلطاً وقمعاً وتفريطاً بالحقوق الوطنية والقومية وتدميراً للنسيج الاجتماعي حتى في الأجزاء ، فلم يتم الانكفاء عن مشروع الوحدة العربية ، وحسب ، وإنما تم النفخ في العصبويات الطائفية والمذهبية والعرقية على صعيد الأجزاء لتأمين نظم الاستبداد الإقليمي ، وهكذا تورط  السلطويون الطغاة تحت عباءة القومية والتحرير والممانعة ...  في أبشع وأشنع جرائم الاستبداد التي عرفها التاريخ البشري ، إما مباشرة ، أو من حيث التبعية لهذا النظام ، أو ذاك ، وبالتالي فهم ، أو معظمهم تداخل عندهم الولاء لمشروعهم القومي النهضوي التحرري بالولاء لهذا النظام الاستبدادي أو ذاك ، وهذا تناقض صارخ ، فقد ثبت أن النظم الاستبدادية على صعيد الأجزاء هي النقيض الذي يلتهم المشروع القومي العربي التقدمي ويدمرّه ، وهنا حدث ما يشبه "الشوزفرينيا" لدى الكثيرين منهم ، فهم مع الاستبداد الذي كان يمارسه النظام الذي يوالونه ، لكنهم يعارضون الاستبداد الذي انقلب عليهم ، وهنا لابد من مواجهة مع الذات أولاً ، وحل هذا الإشكال بمراجعة جذرية وواعية للفصل بين الأهداف النبيلة للمشروع النهضوي القومي العربي التقدمي ، وبين الممارسات المجرمة والجرمية للبعض من العرب القوميين السلطويين ، فقد ثبت بالتجارب المأساوية : أن الغاية لا تبرر الواسطة ، وحسب ، وإنما قد تتحول الواسطة ذاتها إلى وسيلة لتدمير الغاية ، ولهذا قلنا ، ونكرر أن المشروع القومي العربي النهضوي قد ُهزم من داخله وبوسائط بعض فصائله ، فالحامل للأهداف النبيلة لابد أن تكون أدوات نبيلة ، وفي الوقت ذاته لا بد من المراجعة واستخلاص دروس التجارب باعتماد القاعدة : "الحرية أولاً شرط الحرية أخيراً" ، ويتوج ذلك بإعلان صريح يشهره  الجيل الجديد من المناضلين القوميين يعلن فيه البراء من الأساليب والأدوات والسلطات بشخوصها كافة التي أودت بالمشروع النهضوي العربي في الوقت الذي يؤصل ويمنهج  الانتماء للأهداف ويبرمج ويبدع الأساليب المؤدية إلى الأهداف ، وينتج الأدوات الحاملة للمشروع القومي العربي النهضوي التحرري ، فالمراجعة والنقد الموضوعي للتجارب السابقة ورموزها أياً كانوا ليس متاحاً فقط ، وإنما هو ضرورة تاريخية ، وأنه مع الاحترام الشديد لرموز النضال من العرب القوميين ليس هناك مقدس لا شخص ولا شخوص ولا تجارب بعينها ولا أساليب بذاتها ، وأن لا أحد على الإطلاق فوق النقد والتقييم ، وأن البعض ممن يعتبرهم البعض رموزاً لا يستحقون ذلك ، وأن الجيل الجديد من العرب القوميين التقدميين سيهجر إلى غير رجعة وبدون استثناء أسلوب الانقلابات العسكرية والنظم الشمولية وأن النضال  من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والتنمية ومحاربة الفساد والتبعية والنهب في الأجزاء العربية هو السبيل الوحيد الذي يتيح للقوميين العرب التقدميين بناء وهيكلة وتنظيم قواهم للوصول إلى أهدافهم النبيلة في الكل العربي ، باختصار شديد ينبغي التخلي نهائيا عن الشعار السابق " الغاية تبرر الوسيلة " واستبداله براية عربية حضارية جديدة تقول : " الأساليب النبيلة هي الحامل  إلى الأهداف النبيلة " ، وأن : "النضال في الأجزاء مع جميع القوى الاجتماعية والسياسية الحية لإعلاء قيم المواطنة والحرية وحقوق الإنسان الأساسية والنضال من أجل حرية التعبير والمساواة والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاستغلال وتحقيق التنمية المتوازنة والتوزيع العادل للثروات ووضع كافة الإمكانيات البشرية والمادية على الطريق إلى التطور والمساهمة في حل المشكلات المتراكمة والمستجدة هذا كله هو الذي سيضع هذه الأجزاء بحكم وحدة المشكلات القومية على الطريق الصحيح إلى الوحدة العربية " .

( 12 )

            إن هذا يقودنا للبحث عن خط البداية الذي يجب أن ينطلق منه المناضلون النهضويون العرب لاستئناف مسيرتهم بعد عقود انتكس فيها المشروع القومي التقدمي وتعرض لهزائم مأساوية ، فمن هي القوى المضادة للمشروع النهضوي العربي ؟ ، ومن هي القوى المساندة ؟ ، وما هي القواعد الأساسية التي تحكم علاقة القوميين بالأمم الأخرى في الجوار ، وفي العالم والموقف من النظام العالمي ؟ ، ومن هم القوميون التقدميون النهضويون العرب ؟ ، من أين البداية ؟ ، وكيف ؟ ، ومتى ؟ . 

أولاً : في الحديث عن القوى المضادة للمشروع النهضوي العربي لا بد من الوقوف عند القوى الاستعمارية التي أنتجت الأوضاع الراهنة من أول رسم الحدود التي قسمت الوطن العربي إلى تصنيع الدول وسلطاتها على الأجزاء ومن ثم البحث في العناصر التي توالدت نتيجة لذلك من أول المتعاونين والوارثين والمنفذين والحاكمين والمستفيدين والتبّع في الداخل العربي وإلى آخر قوى الهيمنة والاستغلال التي ورثت الاستعمار المباشر ومهامه ووظائفه في الوطن العربي على الصعيد العالمي ، مروراً بالقوى الإقليمية في الجوار العربي التي نمت مطامعها ، ورأت أن من حقها الحصول على نصيب من الكعكة العربية ، فهي الأقرب إليها ، وتقاطع ذلك مع المشروع الصهيوني الطامح إلى التحول من عنصر تابع ومنفذ لمشاريع الهيمنة الخارجية إلى شريك في المحاصصة معها على الثروات العربية ... إن جميع تلك القوى ، والتي على ما بينها من صراعات وتناقضات في الداخل العربي أو في محيطه أو على صعيد العالم قد تصل إلى حد الحروب فيما بين بعضها بعضاً ، إلا أنها جميعاً تتوافق إلى حد التوحد لمواجهة أي مشروع نهضوي توحيدي تحرري في الوطن العربي لأن نجاحه ببساطة ينال منها جميعاً على الاتحاد والإنفراد ، وإذا كان لا بد من تقسيم هذه القوى المضادة إلى داخلية وخارجية ، فإن الداخلية منها في تلك المعادلة سواء في قمم نظم الاستبداد ، أو في قاع العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية تتصارع على نصيبها من الصفقات الداخلية وعلى نصيبها من الصفقات الخارجية مقابل تقديم خدماتها ، ليس في مقاومة مشروع التوحيد القومي ، وحسب ، وإنما في العمل على تدمير النسيج الاجتماعي في الأجزاء أيضاً وتجزئة المجزأ إذا لزم الأمر ، بينما العناصر الخارجية في المعادلة المضادة والمتمثلة : بقوى الهيمنة الدولية وبالقوى الإقليمية في محيط الوطن العربي وبالعصابات الصهيونية ، وبالرغم من تناقض مصالحها والصراع فيما بينها على نصيب كل منها ، فهي متوافقة على أنه يجب أن لا يتحد العرب ، وهي تعتمد على استطالاتها في الداخل العربي من أول أنظمة الطغيان ، وإلى آخر العنصريات الإقليمية والأثنية والدينية والطائفية والمذهبية ، وبالتالي ، فإن نقطة البداية ، وبعد استخلاص الدروس من التجارب المرة ، لتحقيق انطلاقة جديدة للمشروع النهضوي العربي تتمثل في إعلان لائحة مبادئ أساسية ملزمة للقوميين التقدميين في الوطن العربي تتضمن التزامهم التام بمصالح الأمة العربية وأمنها القومي ، وانطلاقاً من هذه المبادئ فأنهم يقيّمون ويقيمون علاقاتهم من جميع الدول والتكتلات الدولية في المحيط الإقليمي والعالم وبالتالي ، فأنهم لم ، ولن يكونوا طرفاً في الصراعات الإقليمية والدولية لمصلحة أية قوة إقليمية أو دولية وسيعملون على وضع حد نهائي لتعامل العالم مع الوطن العربي والأمة العربية ككعكة للمحاصصة ، وذلك باستعادة دور الأمة العربية المركزي في بناء نظام عالمي يقوم على المساواة والعدالة بين أمم الأرض قاطبة ومواجهة جميع أشكال العدوان والاستغلال والهيمنة ويبدأ القوميون بأنفسهم فيناضلون بكل الوسائل لرفع يد العدوان عن وطنهم ولا يعتدون .

               يترتب على ذلك قاعدة عقدية بين القوميين التقدميين العرب ملزمة بالمواطنة وقيمها فالمواطنون في الوطن العربي ليسوا امتداداً أوملحقاً أوفصيلاً من أديان وطوائف ومذاهب وأعراق خارج حدود الأمة في الشرق أو في الغرب ، كما أنهم ليسوا طرفاً أو ملحقاً في التكتلات الدولية السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو الاحتكارات الدولية على اختلافها في هذا العالم ، وبالتالي لن يكونوا غطاء لأي اختراق لسيادة الأمة تحت تلك المسميات ، فالهدف الذي يضعه القوميون التقدميون نصب أعينهم هو استعادة الدور المركزي للأمة العربية كحامل حضاري للأديان السماوية ، ويرفضون العدوان والأجرام والهيمنة باسم الأديان وطوائفها ومذاهبها ، ويرفضون العنصرية العرقية مطلقاً ، ويرفضون التمييز بين البشر أبداً ،ً ويرفضون الاستغلال والنهب والاعتداء على ثروات الشعوب نهائياً ، ويبدأون بأنفسهم ، فيقاومون جميع أشكال العدوان على أمتهم ، على وطنهم ، على ثرواتهم ، على سيادة الأمة التامة شاملة كامل ترابها الوطني ، ولا يعتدون على حقوق أحد في هذا العالم بل ينصرون الإنسان على الظلم إطلاقاً...

               يترتب على ذلك أيضاً قاعدة عقدية أخرى بين القوميين التقدميين العرب ، أنهم  لا يعّولون في نجاح مشروعهم النهضوي على أي عنصر خارجي ، ذلك أنهم سيضعون برامجهم ومخططاتهم ويبدعون أدواتهم بالاعتماد على أنفسهم ، وإن كان ذلك يعني التكاتف مع القوى الحية التي تنشد المساواة والعدالة والحرية في هذا العالم لبناء نظام دولي عادل بين الشعوب ، ويترتب على ذلك أن القوميين التقدميين منذ الآن لن يعلقوا نجاح مشروعهم النهضوي إلا على مقدرتهم ونضالهم ، كما لن يعلقوا فشله على  القوى المعادية ومخططاتها التآمرية ، ولن يتستروا على هزائمهم بشتيمة الإمبريالية والصهيونية والرجعية ، فتلك القوى لا تستحق تلك الصفات إلا بقدر ما تعتدي ، وتتآمر على هذه الأمة ، وبالتالي كونها تعتدي وكونها تتآمر فتلك هي وظائفها ، فالمسألة تتعلق بمقاومة العدوان والتآمر ، وليس باستجداء الكف عن ذلك  . 

ثانياً : في الحديث عن القوميين التقدميين العرب المعنيين بهذا الحديث لا بد من الفصل بين جيل من المناضلين انتمى ومازال بعضه منتمياً إلى أحزاب وحركات وتجارب منيت جميعها بهزائم مدوية على مدى النصف قرن الأخير أدت إلى فرز بالغ الحدة ، لكن ما يوحد بينهم على مختلف أروماتهم أنهم مازالوا قابضين على الأهداف النبيلة للمشروع النهضوي العربي كالقابض على الجمر ، رغم تعرضهم لشتى أنواع القمع والتشريد وانفضاض الكثير من رفاق الدرب عنهم وغدر البعض الآخر بهم ، وارتداد الكثيرين والتحاقهم بقوى التخريب والاستبداد والفساد  ... نقول ، لا بد من وضع أسس للتكامل والالتحام بين هؤلاء المناضلين المعّتقين الذين أنهكتهم الصراعات والخلافات الفكرية والمنهجية حول الأساليب واليمين واليسار والوسط ، وبين الجيل الشاب من الشباب العربي الذي تمرد على الاستلاب والخوف ونزل إلى الميادين ينشد الخلاص وتجفيف مستنقعات الاستبداد والطغيان والفساد دون أن يكون طرفاً أو معنياً بالخلافات الإيديولوجية والفكرية بين الفرق والمذاهب القومية العربية التقليدية ، وهنا قد يحتج البعض في إطلاق الصفة القومية على هذا الشباب الثائر الذي بشّر ويبشر بربيع عربي شامل ذلك أن هذا الشباب نادراً ما يرفع الشعارات القومية ، أو يتبنى منهجاً قومياً كما أنه ليس خريج أحزاب وحركات قومية  ، وفي الرد على ذلك أقول بمنتهى الوضوح : أن هذا الشباب العربي الثائر هو الجيل الجديد المعني بالمشروع النهضوي التقدمي العربي ، ولو كان لا يستخدم المصطلحات القومية المعتمدة من جيل سابق ، فالشباب الذي يُسقط الطغاة ويمهد للحرية والانعتاق من العبودية يحقق الركن الأساس في الانطلاق إلى الوحدة العربية ، ولو لم يرفع شعار الوحدة العربية ، والشباب العربي الذي يحرر الميادين العربية يحقق الركن الأساس لتحرير فلسطين وسائر الأراضي العربية المحتلة من دول الجوار وغير الجوار ولو كان هذا الجيل لا يقول كلمة واحدة عن تحرير فلسطين واستعادة السيادة على الأجزاء المحتلة من وطن الأمة ، ثم ، وهذا هو الأهم أن هذا الجيل الجديد من الشباب العربي بدأ يكتشف من خلال الممارسة والتطور الموضوعي للأحداث وحدة المشكلات القومية ، وكيف أن تعثرّ الربيع العربي في إحدى الساحات العربية يؤثر سلباً ويهدد الربيع العربي في الساحات الأخرى ، والعكس صحيح ، وبالتالي بدأ هذا التطور يفرض نفسه ويبلور لدى هذا الجيل قناعة تترسخ مع كل يوم يمر بأن هذا الربيع العربي إما أن ينتصر بين المحيط والخليج ، وإما أن يُهزم بين المحيط والخليج ، وبالتالي فإن الانتماء القومي والحلول القومية للمشكلات في الأقاليم بدأ يفرض نفسه ، وهذا سيضع هذا الشباب أمام استحقاق البحث في السبل الكفيلة منهجياً وحركياً ونضالياً لبناء الحامل الموضوعي لمشروع النهضة العربية وفي هذا فليجتهد المجتهدون .

( 13 )

             لكن ، وقبل الاستطراد في ما يجب أن يكون على يد الجيل العربي الجديد ، لا بد من التأسيس على ما كان عبر مراجعة موضوعية وذاتية شاملة ، ذلك أن تجربة النصف قرن الأخيرة التي شهدت صعود وانحسار مشروع النهوض القومي التقدمي على ما فيها من سلبيات موضوعياً تمثلت في طغيان وفساد وقمع وارتهان لإرادة قوى الهيمنة الخارجية وأجهزتها ، وبما أفرزته من شخوص وذوات عصابية معاقة متوحشة منافقة غادرة كاذبة خادعة أنانية فردية تعتمد النذالة والخسة والدونية والانتهازية ... ، بقدر ما أفرزت تلك التجربة الكثير من الإيجابيات موضوعياً تصب في خزان الذاكرة العربية للبناء عليها من أول دروس إمكانية مقاومة قوى الهيمنه والعدوان حيث ثبت أن أجهزة الهيمنة الدولية لا تتمتع بقدرات إلهية وأن هزيمتها ودحرها وكسر إرادتها وهزيمة مخططاتها ممكناً ، وأن الانتصارات المنسوبة إليها عائدة في حقيقة الأمر للخلل في الداخل العربي وللقوى المستلبة الإرادة التي وضعت قرارها في سلة قوى الهيمنة الدولية استجداء أو استخذاء أو غباء أو تآمراً ، أو جاسوسية مباشرة ... ، أما على الصعيد الذاتي فقد أفرزت تلك التجربة مناضلين وثوار ومفكرين ومبدعين على الأصعدة كافة ثقافة وسياسة وفلسفة وأدباً وشعراً وفنوناً وعلماء في الاجتماع والعلوم السيوسولوجية والسيكولوجية وفي سائر العلوم التطبيقية والطب والعمران ، وبما أن ذلك كله لا يمكن فصله عن الواقع الموضوعي المعاش فارتبط ذلك بالنضال السياسي من أجل التقدم وأنتج أصلب المناضلين في التاريخ البشري منهم من قضى ، ومنهم من قضى معظم العمر في الزنازين ومنهم من مازال أسيراً فيها ، ومنهم من تم تشريده خارج الوطن قسراً أو بحكم الضرورة هؤلاء على تنوع مشاربهم ومنطلقاتهم ، أولئك الذين مازالوا قابضين على مشروع النهوض والتحرر والحرية والعدالة والمساواة والتنمية والتقدم هم المعنيين بهذا الحديث ، وبهذه الدعوة ، وبالتالي ، فإن عملية الفرز الآن هي الخطوة الأولى التي لا بد منها على الطريق الطويل لا ستئناف مشروع النهوض والتحرر والتطور في الوطن العربي ذلك أن الفرز هنا ليس مسألة شكلية ، وإنما تتعلق بجوهر بناء المعادلة التحررية برمتها ، والفرز هنا ثانياً ، وحتى يتم في سياقه الصحيح ، يجب أن يتم بناؤه على الموقف الراهن مما يجري الآن ، وليس بناء على المواقف الماضوية ذلك أن الجغرافيا السياسية خلال النصف قرن الأخير قد انهارت تماماً ، ولم يعد من الممكن الركون إليها في أية عملية فرز حقيقية فلو اعتمدنا عينة من أية مجموعة أو حركة أو حزب أو تيار ، وأجرينا استبيان عن موقفها مما يجري الآن ، هل ما يجري في الوطن العربي ربيع عربي أو هو مؤامرة ؟ ، من مع هذا النظام أو ذاك ومن مع الثورة ؟ ، من مع هذه العصبة الطائفية أو المذهبية أو العرقية ومن مع الانتماء للأمة ؟ ، من مع الاشتراكية ومن مع اقتصاد السوق ؟ ، من مع الشرق ومن مع الغرب ؟ من مع إيران ومن مع تركيا ؟ ، وهكذا .... لو فعلنا ذلك فسنحصل على نتائج فيها من العجب العجاب حيث التناقض في المواقف سيكون واضحاً داخل كل مجموعة أو حزب بينما سيكون هناك توافق في المواقف بين شخصيات من مجموعات وأحزاب مختلفة وأحياناً كانت مجموعات وأحزاب متصارعة ، هذا ما قصدنا من عدم جدية الجغرافيا السياسية ، فالناصريون ليسوا على موقف واحد ، وكذلك فصائل البعث ، وحركة القوميين العرب ، واليساريين والليبراليين والدينيين وهذا ما دعانا موضوعياً لضرورة الفرز الراهن حول الحاضر الموضوعي والمستقبل المنشود ، فهذا الربيع العربي يجّب ما قبله ويفرز طليعة عربية جديدة متعددة الجذور ...

              وفي إطار المراجعة ، فكراً وممارسة ، داخل فصائل المشروع النهضوي العربي لابد من فرز المعنيين بالمشروع ومستقبله الآن ، عن الذين كانوا ... ، أو الذين ارتدوا ونكصوا ليكونوا في إطار عصابات الاستبداد أو في إطار العصبيات الإقليمية أو الدينية أو الطائفية أو العرقية أو المذهبية ، أو في إطار العصبيات المرتهنة لقوى خارجية في الشرق أو الغرب أو الجوار تحت أي ادعاء كان سواء تبعية مذهبية أو دينية أو طائفية أو عرقية أو اقتصادية أو سياسية ...

             وبما أن المراجعة والفرز التي ندعو إليها تتم في إطار الذين انتموا تاريخياً لفصائل المشروع القومي العربي ، فلا بد من فتح ملف شائك بطبيعته اكتنفه الغموض وتواجهت فيه المتناقضات داخل كل فصيل ، وبين الفصائل المختلفة انحدرت أحياناً إلى حد المواجهة العنيفة مما شتت القوى القومية وباتت أشلاء إلى درجة بات معها من المبالغة الحديث عن "قوى" بالمعنى السياسي المؤسساتي فقد انتهت إلى ما يشبه علاقات شللية تتمحور حول هذا الشخص أو ذاك فانتهت صلاحياتها كمؤسسات سياسية اعتبارية :

1 – نحن أمام مجاميع مختلفة تفرعت عن حزب البعث العربي الاشتراكي داخل الأقاليم العربية وعلى الصعيد القومي وكل منها يدعي أنه البعث والباقي إما "يمين عفن" أو "يسار مناور" أو "سلطوي" مع هذا أو ضد ذاك وقد تتصاعد الاتهامات إلى حد الرمي بالعمالة أو الخيانة أو الجاسوسية ...

2 – ونحن أمام مجاميع ناصرية متناثرة في الوطن العربي بينها من التناقضات والمواقف المتناقضة والولاءات المتضاربة ما أفشل جميع المحاولات للوصول إلى قواسم مشتركة بينها ، منها ما تحول إلى أبواق لنظم الاستبداد ومنها من تغرّب يساراً ومنها شرّق يميناً  وتتبادل الاتهامات  والشتائم ، وكل منها يدعي الوصل مع "الناصرية" وأن الباقي ليس ناصرياً وتنطبق عليه جميع مصطلحات الهجاء والاتهام ...

3 – ونحن أمام شتات من حركة القوميين العرب تناقضت المسارات بينها ورمت بعضها بعضاً بكل ما يخطر على البال من الاتهامات بدءاً "باليسار الطفولي" وانتهاء "بالبرجوازيين الصغار" وإلى آخرهم ...

4 – ونحن أمام شخصيات قومية عربية نأت بنفسها عن الانخراط في هذه الجماعة أو تلك ، أو أنها كانت في ذلك الفصيل أو ذاك ، وقررت عند مفصل تاريخي معين النأي بنفسها والاستقلال بعد تقييم للتجارب المرة ...

5 – ونحن أمام قامات فكرية وثقافية واستراتيجية قومية عربية قدمت محاولات منهجية وفلسفية وحلول استراتيجية للكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في محاولات متكررة لاستنهاض المشروع القومي العربي النهضوي التوحيدي عن طريق طرح مشاريع بديلة وتقديم حلول منهجية وتنظيمية لكن النتائج كانت محدودة ، وبقيت تلك المشاريع في الإطار النظري ، والمحاولات التطبيقية عانت ما عانته التشكيلات الفاشلة الأخرى وتسللت إليها ذات الأمراض خاصة مع تعرض الحاضنة الاجتماعية التي كانت صمام الأمان لمشروع النهوض القومي لضربات قاصمة بفعل الاستبداد المتوحش الذي مارسه بعض الطغاة باسم المشروع القومي ذاته فانفضت الجماهير عن الحلم القومي ، بل بات المشروع القومي في أغلب الأحيان جزءاً من المشكلة ، وليس جزءاً من الحل خاصة بعد انحسار المد الجماهيري القومي والنكوص إلى علاقات ما قبل المواطنة ، وبالتالي إلى ما قبل السياسة ليس على صعيد الكل القومي ، وحسب ، وإنما على صعيد الأجزاء أيضاً .

( 14 )

           نحن الآن ، إذن ، في حضرة شباب عربي ثائر مناضل يتحدى المستحيل ، ونحن  في حضرة مناضلين عرب قوميين تقدميين مُخضرمين ، مُعتقين ، مازالوا قابضين على الأهداف النبيلة للمشروع النهضوي العربي كالقابض على الجمر كأشخاص طبيعيين ، وليس كمؤسسات حزبية اعتبارية ، وإن كان البعض منهم ينضوي في إطارات تنظيمية محدودة التأثير والانتشار لكنهم جميعاً يعون حجم المشكلة ويتطلعون للانضباط في مؤسسة تنظيمية قومية شاملة تحقق التكامل بين جهود المناضلين في الأجزاء وفي الكل العربي على السواء ، بدليل أن الجميع يختم الحوار بالقول : أقيموا التنظيم القومي ونحن جاهزون ، ونختمه نحن بالجواب : من يبني التنظيم القومي إذا لم نتقدم جميعاً ، يداً بيد ، لتشييد هذا البناء ؟ ، ونحن هنا لسنا في وارد البحث عن أسباب تفشي الفردية ، والشخصنة ، وفشل بناء أطر النضال الجماعي المؤسساتي لدى القوميين التقدميين على مدى العقود المنصرمة ، لكن لا بد من الاعتراف ، ونحن في مجال المراجعة الموضوعية والنقدية ، أن المشروع القومي العربي التقدمي هُزم من داخله بفعل تهتك بنيته الفكرية والمنهجية وهيكليته التنظيمية ، هذا التهتك الذي أتاح للبعض ممن ينسبون أنفسهم للمشروع القومي التقدمي أن يتسللوا إلى مواقع القيادة في الأطر القومية فيسخرّون تلك الأطر للتسلط على السلطة في هذا الإقليم أو ذاك ، ويحولونها من أطر تنظيمية حامل لمشروع نهضوي قومي إلى أدوات للتسلط والقمع يديرها فرد أو عصابة ترتكب من الجرائم الإنسانية وجرائم التخريب والتغريب والتشريق والفساد والإفساد والنهب والتفريط بالحقوق الوطنية والقومية ما يندى له الجبين كل ذلك تحت شعارات التحرير والوحدة والمقاومة والصمود حتى بات مشروع النهوض والتحرر العربي والوحدة العربية مرتبطاً بأولئك الأنذال والأفاقين والمجرمين والطغاة وبجرائمهم من وجهة نظر الكثيرين ، وبات المناضل القومي التقدمي الحقيقي والصادق يواجه في كل مكان وخلال أي حوار بما يفعله أولئك حتى أنه يداري وجهه خجلاً من أنه انخدع فيهم في يوم من الأيام ، لقد كان الموقف من أولئك هو المعيار ، ومازال الموقف منهم هو المعيار حاضراً ومستقبلاً ، وهكذا نرى أن الذين انزلقوا ممن كانوا يُحسبون على المشروع النهضوي القومي لتبني نظم الاستبداد والطغيان والفساد والنهب والتبعية باعتبار أن القائمين عليها كانوا ومازالوا يرددون الشعارات القومية في الممانعة والمقاومة قد تحولوا إلى أبواق للقوى المضادة ، وهذا أدى فيما أدى إليه إلى ظهور جيل ، كان من المفترض أن يكون من القوميين التقدميين يقاوم الطغاة والمستبدين ، وجدناه يتلوث بلوثة الطغاة ، فهو لا يمجّد الاستبداد والمستبدين ، وحسب ، وإنما ينغمس في ممارسته ، ويتبنى طرائق الاستبداد والطغيان ، وهذا بمجمله أدى إلى انفضاض الحاضنة الاجتماعية العربية عن المشروع القومي التقدمي ، وإلى تشككهّا في مصداقية كل ما يصدر عن القوميين ، حتى أن أسم القوميين ارتبط بالاستبداد والفساد والنهب والتفريط وعدم المصداقية ، إلى درجة بات معها كثير من القوميين يدارون إشهار انتمائهم للأمة العربية ، وهذا كله أدى إلى شرذمة القوميين وتبعية الكثيرين منهم لهذا الطاغية أو ذاك ، فتشرذموا بالتحلق حول الطغاة عوضاً عن التوحد حول الغايات والأهداف  ، وضاع في غمرة ذلك كله مشروع النهوض ، ودخل جيل كامل من القوميين نفق من الصراعات والنزاعات أفقدتهم جميعاً الفاعلية الثورية وانحطت بهم إلى علاقات ما قبل الانتماء للأمة العربية ، وحتى إلى علاقات ما قبل المواطنة في الأجزاء ... لهذا قلنا ، ونكرر أن مشروع النهوض العربي القومي التقدمي هُزم من داخله ، وبالتالي فإن إلقاء مسؤولية الهزائم على الإمبريالية والصهيونية والرجعية ، وعصابات الاستبداد الإقليمي ، والقوى الرجعية جاء في غير مكانه ، وكأن تلك القوى المضادة كان عليها أن تتنحى جانباً لينتصر مشروع النهوض العربي القومي التقدمي ؟ ، فهي لن تكون إمبريالية ولا صهيونية ولا رجعية ولا متواطئة ومستبدة إلا بقدر ما تعتدي وتتآمر على الأمة العربية ومشروعها النهضوي الحضاري وطناً وشعباً ، حاضراً ومستقبلاً ، كما اعتدت وتآمرت تاريخياً ...

                 إنني لا أعتذر عن هذه القسوة على الذات ، ذلك أننا في مرحلة إعادة التقييم والتأسيس لطرائق مختلفة في النضال ، وهذا يتطلب وضع أسس مختلفة تماماً عما كان ، والمرحلة لا تحتمل المجاملات والتلطي وراء تبرير الأخطاء والخطايا ، المطلوب الآن تحديد موقف قومي عربي تقدمي واضح مما يجري في الوطن العربي ووضع حلول استراتيجية للمشكلات الكلية ، وحلول جزئية على مستوى الأجزاء وإيجاد الرابط الاستراتيجي بين الجزئيات والكليات بحيث يتحقق التكامل ، وإبداع رؤية واضحة للمستقبل المراد ، والانطلاق من الواقع كما هو ، ووضع برامج تفصيلية على الطريق الممتد مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون تتضمن تحديد الزمان والمكان لكل خطوة ، وإبداع وسائل وأدوات مناسبة لكل مرحلة يتم تطويرها عند الانتقال إلى خطوة لاحقة ، كل هذا استناداً على قراءة صحيحة للواقع كما هو ، وما هي التداعيات التي انحدرت به إلى هذا الدرك ، ومن ثم الانعتاق من الوسائل والأدوات والأساليب والخيارات التي أدت إلى الهزائم طيلة العقود الخمسة المنصرمة ...

( 15 )

               وبما أننا في مجال المكاشفة والمراجعة مع الذات أولاً ، فلا بد من الاعتراف أن عجائز المشروع العربي القومي التقدمي التحرري ، أو ما تبقى منهم يجدون صعوبة بالغة في التأقلم مع المتغيرات التي رافقت مسيرتهم التاريخية الحزينة البالغة الإيلام والمأساوية ، ذلك أنهم على مختلف أروماتهم التنظيمية ومن حيث تعدد الولاءات كانوا ضحية أساليب وأدوات وممارسات أودت بهم ذاتياً وبمشاريعهم موضوعياً ، وألحقت بهم كوارث على الصعيد الذاتي والموضوعي ، فقد تبادلوا مواقع الانقلاب على بعضهم بعضاً ، وتبادلوا مواقع السجانين والمسجونين ، ومواقع الغدر والمغدور بهم ، ومواقع المنشقين والمنشقون عنهم ، ثم هاهم جميعاً يجدون أنفسهم اليوم بعد رحلة العذاب المريرة تلك والتي استمرت عقوداً على الرصيف لا حول لهم ولا قوة بينما الشارع العربي يموج بحركات وتحركات بعضها إيجابي يبهر الأبصار ، وبعضها سلبي تنقبض له القلوب ، وهم لا يستطيعون شيئاً لنصرة هذا أو لمواجهة ذاك ، إنهم أفراد ينشدون الخلاص من تجارب فاشلة ، لكنها في الوقت ذاته تجاربهم ، وتاريخهم الذي لا يعرفون منه فكاكاً ، فمنهم من ضحى بحياته دفاعاً عن تلك التجارب ومنهم من قضى عقوداً في الزنازين ، ومنهم من تشرد في أنحاء الأرض هرباً من رفاق هو من أوصلهم إلى مواقع التسلط والاستبداد ... لهذا قلنا ونكرر أن مشروع النهوض هُزم من داخله وعلى يد بعض ممن ادعى الولاء له ، ولهذا علينا أن ندرك مدى صعوبة الموقف بالنسبة لهذا الجيل الهرم من العرب القوميين رغم نبل المقاصد ، فهم يسلمّون تماماً بأن التغير الحاد الذي جرى على الظروف الموضوعية يتطلب نهجاً وفكراً ومنهجاً وتكتيكاً واستراتيجية وأساليب وأدوات مختلفة تماماً عما كان ، لكنهم في الوقت ذاته لا يستطيعون الفكاك من تاريخهم الذي اعتمد التفكير الشمولي الفردي الإقصائي للآخر ، وبالتالي يشككوّن بالأسلوب الديمقراطي الذي رفضوه تاريخياً تحت عنوان حرق المراحل ، والتفكير الانقلابي ، وبالتالي فهم لا يرفضون الاستبداد من حيث المبدأ ، وإنما يرفضون فقط الاستبداد الذي مورس عليهم ، فهم كما يقولون – كل على حدة – كانوا ضحايا مؤامرة من رفاق لهم في الداخل أومن رفاق دوليين ، أو ضحية مؤامرة إمبريالية صهيونية ، وأنه لو كان حصل كذا ... أو كذا ... لكانت الأمور بألف خير ... ، لكن التاريخ البشري لا يعترف بهذا ... لذلك ، وانطلاقاً من مبدأ المكاشفة والمصارحة والتصادق الذي نحن بصدده الآن نعترف بأننا جميعاً – وأبدأ بنفسي – بحاجة ماسة لكثير من الشجاعة لمواجهة الذات وتفكيك تجاربنا ومواقفنا وأفكارنا ومناهجنا وصداقاتنا وعداواتنا والتأسيس لبناء قومي تقدمي بمواصفات جديدة ووفق دفتر شروط وخرائط وبيانات ودراسة جدوى ووضع جدول زمني تفصيلي للمراحل المتعاقبة واعتماد دراسة استراتيجية شاملة تحدد نقطة الانطلاق في الزمان والمكان والمخاطر المحتملة ومصادرها ودرجات الأمان ...

             ثم ، من الحق والواجب والوفاء أن نعترف للرواد من القوميين العرب على صعيد الفكر والممارسة والنضال والفداء والتضحية والصلابة بمكانتهم التاريخية ، وأن نؤكد على أن  نقد المراحل السابقة لا تنال من مكانتهم النضالية لكن حجم التحديات كان أكبر من إمكانية الأدوات التي اعتمدوها بدليل ما انتهت إليه تجاربهم ، وبدليل ما نالهم على يد من كان من المفترض أنهم تتلمذوا على أيديهم ،  ونحن إذا كنا ندعو لميلاد جديد فإن هذا لا يعني أننا ننطلق من الصفر ، وإنما نبني على الإيجابي والصادق والأصيل الذي صاغه لنا مفكرون أجلاء ومناضلون أبطال منهم من قضى ، ومنهم من يساهم الآن في التأسيس للميلاد الجديد بعقل مفتوح على المستقبل استناداً على أرث ضخم من المنهجية الأصيلة والخبرة العميقة ، لقد كانت أساليب الرواد القوميين وليدة ظروفهم وكان أغلبها استجابة لمواجهة تحديات متلاحقة ، كان تبريرنا لها أنها أساليب "الضرورة" ، الآن ، نحن أمام ظروف موضوعية مختلفة تماماً على الصعيد العربي القومي الداخلي ، وعلى صعيد الأجزاء ، وعلى الصعيد الإقليمي المحيط ، وعلى الصعيد الدولي تتطلب رؤيا وأدوات مناسبة ، وبالتالي فإن الميلاد الجديد ليس رهن بأي تجارب سابقة ، الاصطفافات باتت من الماضي : أسبابها ، والصراعات التي دارت حولها ، والولاءات التي اقتضتها .

( 16 )

             قضية أخرى لا بد من معالجتها تتعلق بعلاقة المشروع النهضوي التحرري العربي بالربيع العربي ، فهناك من يقول أن الوقت غير مناسب إطلاقاً للحديث عن تنظيم قومي ، أو حزب قومي ، فالذين يتعاملون مع الربيع العربي من القوميين على أنه مؤامرة يسعون لمواجهته في كل ساحة على حدة ، أو الوقوف معه في ساحة والهجوم عليه في أخرى ، والذين يؤيدون الربيع العربي من القوميين يدعون للانخراط فيه في كل ساحة على حدة ، وأن الوقت غير مناسب لطرح مشروع قومي استراتيجي ، والغريب في الأمر أن القوميين حتى في الساحات التي انتصر فيها الربيع العربي جزئياً وسقط فيها الطغاة نلاحظ هذا الانقسام الحاد في المواقف ، ونلحظ القوميين ، وتحت ستار التعامل مع الواقع يتحاشون الإعلان عن مبادئهم القومية أو السعي لتأسيس حزب قومي عربي ، علماً أن الموانع الأمنية التي كانوا يحتجون بها قد زالت ، وعندما نقول لهم أيها السادة : إن الإسلاميين يتعاملون مع الواقع في الساحات ولا يتخلون عن إعلان أنفسهم كإسلاميين ، والماركسيين كذلك ، والليبراليين أيضاً ، فلماذا لا تؤسسون حزبكم القومي وتشهروه علناً طالما أن أسباب السرية قد زالت ؟ ، لماذا لا تعلنون أنفسكم ؟ ، يكون الجواب : لأن الشعب يهتم بالقضايا المعيشية والاجتماعية المحلية ، نحن نقول أن أحد أهم الدروس المستفادة من التجارب السابقة هو أن القوميين مطالبين الآن قبل أي أحد بتأكيد الترابط بين المشكلات في الوطن العربي ، وأنها مشكلات قومية ، وأن الإطار القومي هو المناسب لحلها ، وأن الحديث عن الوحدة العربية وتحرير فلسطين ومواجهة الإمبريالية والرجعية يجب أن يرتبط بالنضال من أجل الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتحقيق التنمية ومقاومة الظلم والعدوان من أي طرف كان في الأجزاء ، وأن القوميين لن يستعيدوا موقعهم وحاضنتهم الجماهيرية إلا بالنضال مع الجماهير العربية في الساحات المحلية لتحقيق مطالبها المحقة في كل شأن اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي ، وأن على القوميين أن يكفوا عن التعالي على الحقوق المطلبية للجماهير وعليهم أن يتقدموا الصفوف للنضال من أجل تحقيق حياة كريمة لكل مواطن فينعم بالكفاية والعدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص وتصان كرامته وتتاح له سبل المعرفة ، لهذا نقول أن التنظيم القومي المؤسساتي ضرورة للربيع العربي ، كما هو ضرورة للمشروع القومي التقدمي ، فالقوميون العرب كأفراد وبدون تنظيم مؤسساتي لا أثر لموافقهم في تحقيق الإيجابي ومواجهة السلبي ، بينما ،  وفي حال تنظيم صفوفهم سيمسكون بالبوصلة مع جميع القوى الحية في المجتمع العربي لتتجه رياح الربيع العربي إلى حيث يجب حرية ووحدة وعدالة اجتماعية وسيادة ...

( 17 )

              بناء على ما تقدم  أدعو جميع القوميين العرب التقدميين من الجيل الحامل لتجارب العقود السابقة ومن الجيل العربي الجديد الذي ينشد الحرية والعدالة والمساواة ، ومن سائر المناضلين من أجل التقدم في الوطن العربي والذين أوصلتهم تجاربهم إلى ضرورة التجديد على صعيد الأجزاء وعلى صعيد الأمة ، والذين أجروا مراجعات على صعيد الفكر والممارسة ، هؤلاء جميعاً مدعوون للإجابة على السؤال الملح : ما العمل ؟ الآن ؟ ، نعم الآن ، ومن ثم المباشرة على الفور بترجمة الجواب إلى فعل في الواقع فكراً وممارسة ...

              لقد كنت أرى منذ نصف قرن : أن التنظيم القومي هو الأداة المناسبة ليكون حاملاً للمشروع القومي العربي النهضوي التقدمي ، وقد رافقني حلم بناء هذا التنظيم طيلة السنوات التالية ، بعد أن رافقت فشل التجارب القومية بسبب فقدانها للرؤيا الإستراتيجية بعد انغماسها في بعض السلط الإقليمية ، وقد تابعت المحاولات لتحقيق هذا البناء كمشارك في بعضها ، ومراقباً لبعضها الآخر ، ومحاوراً لبعضها الثالث ، ورافقت الفشل الذي لحق بمحاولاتي ، وبها جميعاً ، لكن ، وعلى مدى النصف قرن لم يراودني الشك للحظة واحدة بأن التنظيم القومي هو الحامل الوحيد للمشروع القومي ، وأن للفشل أسباب كامنة في ذواتنا ، وليس في الفكرة النبيلة ذاتها   ، وعندما بدأ الربيع العربي يهلّ على الأمة عبر نضال جيل شاب ، كان موقفي منذ اللحظة الأولى : أن هذا الربيع العربي إما أن ينتصر قومياً بين المحيط والخليج ، وإما أن ينهزم بين المحيط والخليج ، وحتى ينتصر بين المحيط والخليج يجب تحقيق وبناء المؤسسة القومية التي تنظم صفوف القوميين التقدميين في الوطن العربي بحيث يساهمون في هذا الربيع العربي بكل طاقاتهم ويساهمون في حمل البوصلة من الخطوة الأولى ، وحتى الألف ميل بين المحيط والخليج  .

ثم نواجه الأسئلة الصعبة : متى ؟ ، ومن أين ؟ وبمن ؟ ، وكيف ؟  .

أولاً - متى ؟ :

# الآن ، بالضبط الآن .

ثانياً - من أين ؟ :

# من الوطن العربي من ساحاته وميادينه وقراه وبلداته ومدنه ، ومن المغتربات ، وحيث يوجد مواطن عربي في هذا العالم  .

( 18 )

ثالثاً - بمن  ؟ :

  #   1 -  إن جميع العرب القوميين التقدميين الذين أمضوا أعمارهم في أحزاب وتنظيمات وحركات قومية على تنوعها وتعدد مصادرها الفكرية ، هم الآن أفراداً وجماعات مدعوون لخلع عباءة التنظيمات والأحزاب والحركات القومية السابقة مع الاحترام والتقدير الكبيرين للرواد الذين أسسوا وساهموا في حمل الراية القومية طيلة العقود المنصرمة ، وفي الوقت ذاته إعلان البراءة التامة من الممارسات والأساليب والجرائم والطغيان والفساد والنهب والخيانات التي مارسها البعض باسم القومية العربية وأهدافها النبيلة في الحرية والوحدة والاشتراكية ، وأن يتداعى هذا الجمع القومي العربي التقدمي الذي صقلته التجارب والأحداث الجسام والعصف الفكري والمنهجي الذي أسقط الكثير من الأفكار وحرضّ على بناء فكري ومنهجي مختلف لبناء التنظيم القومي العربي التقدمي بمواصفات مختلفة تماماً ، تنظيم قومي يضبط حركة كوادره على الطريق لتحقيق أهدافه انطلاقاً من الأسس التي تعتمدها مؤسساته وبالأساليب التي تقررّها وصولاً إلى الغايات التي تحددها ، تنظيم ديمقراطي البنية والهيكلة من القاعدة إلى القمة ، مؤسسات على صعيد الأجزاء ، وعلى صعيد الكل القومي  تنظم جهود الأعضاء في إطار الجماعة ، مؤسسات أفقية وعمودية متناسقة لا تسمح بتسخير الجماعة لنزوات فرد أو أفراد ، تنظيم يصون وجود الأمة وسيادتها وهويتها في الساحات المحلية والإقليمية  ويمثلها كلاً على الصعيد القومي  وأمام العالم ، ويصون حقوق المواطنين وخصوصياتهم في الهياكل المحلية والقومية للتنظيم .

2 – إن جميع المناضلين في أحزاب وحركات النهضة على تنوعها وتعدد اتجاهاتها خلال العقود المنصرمة والذين وصلوا إلى طريق مسدود في أحزابهم وحركاتهم ، وفرزتهم التجارب المرة للاقتراب من الأهداف النبيلة لمشروع التحرر والحرية العربي ، مدعوون جماعات وأفراداً للمساهمة في بناء التنظيم القومي وإغناء هذه المحاولة بحصيلة تجاربهم وخلاصة أفكارهم ، فلقد شهدت العقود المنصرمة عمليات فرز داخل مشاريع النهضة على تنوعها ، وكما ارتد الكثير من العرب القوميين عن المشروع القومي العربي التقدمي والتحقوا بمشاريع أخرى ، فإن العديد من المناضلين كانوا في مشاريع أحزاب إقليمية وأممية واشتراكية ورأسمالية وليبرالية وشمولية ودينية وعرقية قد اكتشفوا من خلال التجارب أن المشروع النهضوي العربي في حال تصويب منطلقاته ومساره هو الحامل لحلمهم في التقدم والنهضة ، هؤلاء على مختلف أروماتهم التنظيمية السابقة وعلى تنوع منطلقاتهم الفكرية والمنهجية مدعوون للمساهمة في بناء التنظيم القومي علماً أن المؤسسات التأسيسية للتنظيم القومي على صعيد الساحات المحلية وعلى صعيد المؤسسات القومية ستكون متاحة لطرح كافة المناهج الفكرية والنظرية والأساليب المؤدية للنهضة والتحرر والحرية في الوطن العربي ، فليس لأحد أن يفرض أو يرفض ، بل بالديموقراطية فقط تقر الوثائق ، والأقلية تلتزم بتنفيذ قرار الأغلبية وفق اللوائح التنظيمية الملزمة للجميع على قدر المساواة .    

3 –  إن الجيل العربي الشاب الذي تمرد على أجهزة الطغيان ، وعلى عجز هياكل الأحزاب التقليدية ، والذي ينشد الحرية والديمقراطية والتنمية وتسخير الإمكانيات المادية والثروات ، وتنظيمها لتعيش الأمة بما تملك من ثروات لا هدر ولا استئثار ولا نهب خارجي أو داخلي ولا فساد ولا استغلال ، ويحلم بسيادة الأمة على كامل ترابها الوطني بتحرير المحتل من أرض الوطن من العدوان ، ولا تعتدي ، هذا الجيل العربي المجيد مدعو دون استثناء ، أو تمييز من أي نوع إقليمي ، أو ديني ، أو عنصري ، دون استئثار ، دون إقصاء ، دون تهميش ، مدعو للمساهمة ، بل ولقيادة عملية بناء التنظيم القومي التقدمي ، واستلام الراية من جيلنا الهرم مطهّرة من رجس الاستبداد والفردية والفساد والتبعية والأخطاء والخطايا .

( 19 )

رابعاً – كيف ؟ :

لعلنا وصلنا إلى السؤال الصعب ، ذلك أن عديد المحاولات لتجديد الخطاب القومي العربي التقدمي سقطت عند محاولات الإجابة على هذا السؤال ، أو بعد اعتماد إجابات أودت بتلك التجارب إلى السقوط ، ونحن ندرك الآن مع توجيه هذه الدعوة أن هناك على الساحات العربية العديد من المشاريع المطروحة على هذا الصعيد ، بعضها يتخذ شكل تجديد للهياكل السابقة ، كحزب البعث والحركة الناصرية وحركة القوميين العرب ، نقول ذلك ، ونحن ندرك أننا حقيقة أمام أحزاب بعث وحركات ناصرية وحركات للقوميين العرب ، لكن لا بأس ، فالكثير من تلك المحاولات تحمل مراجعات وأفكاراً إيجابية ، وبعضها الآخر يطرح مشاريع جديدة منقطعة الصلة بالتشكيلات السابقة ، فهناك العديد من الدعوات لتيارات عربية جديدة لكنها موضوعياً محكومة من حيث تشكيلاتها بالبنيات الحزبية السابقة موضوعياً ، فكيف يمكن التعامل مع هذا الكم الهائل من المشاريع ؟ .

من الصعب ، ويكاد يكون من المستحيل أن يتقبل أحد قبول الدعوة للانتقال من ساحته إلى ساحة آخر ، حتى المجموعات الصغيرة التي تكاد تكون موحدة فكرياً تسعى لشكل من أشكال التحالف بينها لا أكثر ، وبالتالي لا بد من دعوة يتداعى بموجبها جميع حملة المشروع النهضوي العربي على تنوع منطلقاتهم إلى كلمة سواء ، وهذا ما كان الأمل يحدونا أن يتم عبر دعوة عامة يتداعى فيها جميع من يعنيهم الأمر إلى مؤتمر تحضيري عبر آلية ديموقراطية ، وقد حاولنا ذلك بالفعل ، لكن قبل أن تهب رياح الربيع العربي ، كان التصحّر ، وتحريم السياسة سيد الموقف ، فذهبت الدعوة أدراج الرياح ، وجددّنا الدعوة مع انطلاقة الربيع العربي ، ووجهناها خاصة للقوميين التقدميين في الأقاليم التي سقط فيها الطغاة باعتبار أن أجهزة القمع قد سقطت ، لكن التبرير هذه المرة جاء بضرورة الانغماس في حل مشكلات الواقع الإقليمي ، فالشعارات القومية ، كما يقولون ، فقدت شعبيتها ، الغريب في الأمر أن هذا التبرير جاء من القوميين الذين انتصر في أقاليمهم الربيع العربي وزال كابوس الطغاة عن رؤوسهم ، وكان من المؤمل أن يبادروا على الفور ببناء مؤسسات التنظيم القومي في بلدانهم وربط النضال من أجل الحرية والتقدم والنهوض في الأجزاء بالغائية القومية على صعيد الكل العربي ، وعندما كنا نواجههم بأن الإسلاميين والليبراليين واليساريين لم يتخلوا عن أهدافهم ومؤسساتهم وهم يخوضون معارك الواقع ، كانت الإجابة بضرورة تأجيل التنظيم القومي ، وأن الظروف الموضوعية لا تسمح ، وكأن النضال القومي لا يستهدف تحقيق الحرية والتقدم والعدالة والتنمية في الأجزاء ؟ ، إلى أن امتحنوا في الانتخابات الديمقراطية وخرجوا منها بخفي حنين ، عندها وعوضاً عن المراجعة وإعادة تقييم الموقف تحولوا إلى شتامين للربيع العربي الذي جاء بالرجعيين والسلفيين ، وعادوا إلى ترداد النغمة القديمة التي لا يجيدون سواها وهي التبرير بالمؤامرة والإمبريالية والصهيونية وكأن الإمبريالية والصهيونية ليست معنية باحتواء آثار الربيع العربي والعمل على مخططات بديلة تعوضّ لها الطغاة الذين سقطوا ، وكأن على الإمبريالية والصهيونية أن تفرش الطريق بالورود لإنجاح الربيع العربي  ؟ ، الغرب من ذلك كله أن بعض القوميين الذين كنا نعّول عليهم ، في بلدان الربيع العربي المنتصر ، لم يكتفوا بذلك ، وإنما وقفوا ضد الربيع العربي في الأجزاء العربية الأخرى ، وجاء التأييد للثوار العرب في الأجزاء الأخرى من القوى التي لم تكن يوماً محسوبة على المناضلين القوميين ؟! .

              كل ما نرجوه الآن أن يراجعوا أنفسهم ومواقفهم ، وأن تكون الظروف الموضوعية التي كانوا يتعللون بها قد نضجت وأن يكون القوميون التقدميون وأصحاب مشاريع النهضة والتحرر والحرية والتقدم والعدالة عموماً قد أدركوا مخاطر غياب مؤسساتهم التنظيمية على نضالهم في الأجزاء ، وعلى استراتيجيتهم القومية في الأساس ، لهذا ، فإننا نجدّد الدعوة لبناء التنظيم القومي استجابة لطلبات عديدة من عديد المناضلين القوميين الذين شرفوني باعتباري على مسافة واحدة من الجميع ، وكلفوني بصياغة الدعوة ، وتحقيقاً للغاية المتوخاة ، واستبعاداً للتأثير الشخصي في هذه الدعوة ، فإنني سأكتفي باقتراح خطوات عملية عبر لجان متخصصة ووفق برنامج زمني محدد دون أن يكون لي أي دور في تلك اللجان ، وأن دوري سينتهي بمجرد إشهار هذه الدعوة .

( 20 )

بناء على ما تقدم وبمقتضاه نقرّر أن نتداعى جميعاً إلى ما يلي :

1 -  ُتنشر علناً ، وبكل وسائل الاتصال والإعلام المتاحة هذه الدعوة التأسيسية لبناء المؤسسات القومية للتنظيم القومي في الوطن العربي ، ومؤسساته الحزبية في الأقاليم ويتم تبليغها لجميع المعنيين حيثما كان ذلك ممكناً ، وعلى الحاضر منهم أن يعلم الغائب ، وكل من يقبل هذه الدعوة يتحول من مدعو إلى داع ، واجب عليه توجيهها لكل من يعتقد أنه أهل لها ، كما أن جميع الذين يقبلونها معنيين بإدارة حوار بناء حول هذه الدعوة وجدواها والسبل الكفيلة بتحقيق الغائية التي تهدف إليها .

2 – على الراغبين في تلبية هذه الدعوة تسجيل موافقتهم في سجل خاص يجري إعداده بإرسال الاسم وعنوان الإقامة وعناوين الاتصال والإقليم الذي ينتمي إليه إلى سجل خاص عبر الإيميل التالي :  albayan.h@gmail.com                            وتتشكل من المسجلين في السجل العام  "الهيئة العامة التأسيسية" للتنظيم القومي ، وأسمه الافتراضي الذي نقترحه "الطليعة العربية" بالطبع القرار النهائي بهذا الشأن ، وبكل شأن ، يعود للمؤتمر القومي التأسيسي .

3 – تظل هذه الدعوة مفتوحة لمدة 30 يوماً بدءاً من اليوم التالي لنشرها . يتم بعدها تنظيم أسماء المؤسسين في سجل عام يطلق عليه : "السجل العام القومي للمؤسسين" يدرج فيه أسماء المؤسسين وعناوينهم يتفرع عنه سجلات فرعية للمؤسسين من كل دولة إقليمية ، وسجلات أخرى للمؤسسين المتواجدين في المغتربات يشار في السجل العام القومي إلى الدولة ومكان الإقامة ، ويشار في السجل الفرعي للدول إلى مكان الإقامة ، ويشار في السجل الفرعي للمغتربين إلى مكان الإقامة والدولة التي ينتمي إليها ، وبذلك يكون لكل مؤسس إذا كان مغترباً رقم أساسي في السجل القومي العام ، ورقم فرعي في سجل الدولة التي ينتمي إليها ، ورقم فرعي ثالث في سجل المغتربين ، ويتم إشهار هذه السجلات بين المؤسسين للتواصل فيما بينهم  ، ووضع اللوائح التنظيمية لاتخاذ الخطوات التالية وذلك خلال عشرة أيام على الأكثر من تاريخ انتهاء مهلة ال30 يوماً .

4 – يتم تشكيل هيئة تأسيسية من المؤسسين في كل من الدول العربية من المؤسسين المقيمين والمغتربين في الخارج المسجلين في السجلات مهمتها الإعداد لوضع مسودة عقد تأسيسي وتنظيمي للحزب وتشكيل هيئة تحضيرية تضع برنامجاً زمنياً  لانعقاد المؤتمر التأسيسي للحزب وإشهاره في تلك الدولة بحيث تكون وثائق الحزب في كل دولة تعبر عن الواقع الموضوعي في تلك الدولة ومشكلاته على أن تكون تلك الوثائق منسجمة مع الإطار الاستراتيجي العام الذي يرسمه المؤتمر القومي ، وكذلك تقوم الهيئة التأسيسية في كل إقليم  بتشكيل هيئة اتصال مع الهيئة التحضيرية المركزية للمؤتمر القومي التأسيسي .  

5 –  بالتوازي والتزامن مع تشكيل الهيئات التأسيسية في الأقاليم يتم تشكيل هيئة تحضيرية مركزية للمؤتمر التأسيسي القومي من 25 عضواً يتم اختيارهم وفق ما يلي :

أ – يختار المؤسسون في كل ساحة ديمقراطياً ممثلاً لهم في الهيئة التحضيرية المركزية القومية .

ب -  يستكمل العدد من المؤسسين المغتربين حسب مكان إقامتهم .

6 – يتم توزيع أعضاء الهيئة التحضيرية المركزية القومية على خمسة لجان فرعية متخصصة كل واحدة منها تضم خمسة أعضاء ، وهذه اللجان هي :

أ – لجنة الارتباط والتواصل ومهمتها تحقيق التواصل مع المؤسسين وتبادل الوثائق واستلام ما يصدر عنهم من وثائق ومقترحات إلى الهيئة واللجان ، وتبليغهم ما يصدر إليهم من الهيئة المركزية التحضيرية ، ولجانها الفرعية .

ب – لجنة الإعداد الفكري والتنظيمي ومهمتها تلقي المقترحات من المؤسسين حول الأسس الفكرية والمنهجية والتنظيمية ودراسة جميع المشاريع المطروحة والتنسيق بينها وتوزيعها على المؤسسين وتلقي الردود والمقترحات عليها وتحديد برنامج زمني لذلك .

ج – لجنة الصياغة ومهمتها تلقي جميع الوثائق من لجنة الإعداد الفكري والتنظيمي ودراستها وصياغة مسودة عقد تأسيسي وتنظيمي ومشروع هيكلة على الصعيد القومي والإقليمي ترفع إلى المؤتمر القومي التأسيسي .

د – لجنة الموارد المالية والإنفاق ومهمتها قبول التبرعات من الأشخاص الطبيعيين حصراً وتحديد طرق الإنفاق ومسك سجلات للواردات والنفقات .

و – لجنة التنظيم والإدارة ومهمتها الإعداد لانعقاد المؤتمر التأسيسي القومي  وتحديد المكان والزمان ووضع سجل بأعضاء المؤتمر التأسيسي وتسلم الوثائق من اللجان واقتراح جدول أعمال للمؤتمر خاضع لموافقة المؤتمر التأسيسي القومي في جلسته الأولى .

7 – تختار كل لجنة من اللجان الخمس مقرراً لأعمالها ويتشكل من المقررين الخمسة المكتب المركزي للأعداد يبقى في حالة اجتماع دائم حتى انعقاد المؤتمر التأسيسي القومي ، مهمة المكتب تحقيق التكامل بين اللجان الفرعية لإنجاز أعمالها ضمن البرنامج الزمني المحدد .

8 – تجتمع الهيئة التحضيرية المركزية بكامل أعضائها الخمسة والعشرين بعد اكتمال أعمل اللجان الفرعية لإعداد الوثائق بصيغها النهائية وكذلك المقترحات واللوائح التنظيمية كمسودات تقدم للمؤتمر وتحدد مكان وزمان انعقاد المؤتمر التأسيسي القومي وتتحول الهيئة المركزية التحضيرية إلى هيئة تنظيمية تشرف على اتخاذ كافة الخطوات التنظيمية للمؤتمر وتوجيه الدعوات واستقبال المدعوين ، واختيار من يتحدث باسم الهيئة أمام المؤتمر القومي التأسيسي .

9 – مع بداية انعقاد الجلسة الأولى للمؤتمر التأسيسي القومي الأول يترأس الجلسة أكبر الأعضاء سناً ، ويتم اختيار مُقررين إثنين هما أصغر الأعضاء سناً ، ثم تقوم الهيئة التحضيرية المركزية بتلاوة جدول الأعمال المقترح ، وبعد التصديق عليه ، تقدم الهيئة التحضيرية المركزية الوثائق التي تم إعدادها للمؤتمر ، وتعلن عن حل نفسها مع لجانها الفرعية ، ويعتبر أعضاء الهيئة المركزية القومية التحضيرية حكماً أعضاء كاملي العضوية في المؤتمر التأسيسي القومي  .

10 –   بمجرد انعقاد المؤتمر التأسيسي القومي يكون سيد نفسه ، ويتخذ قراراته ، ويصدر مقرراته ديموقراطياً بعد إقرار اللوائح التنظيمية لأعمال المؤتمر ، وتكون تلك المقررات هي المرجعية الأساسية للمؤسسات القومية وللمؤسسات الحزبية في الأقاليم على حد سواء .

11 – تبلغ هذه الدعوة لجميع من يعنيهم أمر مشروع النهضة والتحرر والتقدم والسيادة في الوطن العربي ، وعلى كل من يقرر تبني مضمونها أن يعمل بمقتضاها وأن يبلغها بدوره لكل من يعتقد انه مؤهل لها ، وتبدأ مهلة ال30 يوماً من تاريخ : 6/7/2012 وتنتهي المهلة غاية يوم : 5/8/2012.

12 –  يتعهد المؤسسون بالالتزام ، وتنفيذ مقررات المؤتمر القومي التأسيسي ، وكذلك مقررات الهيئات التأسيسية في الأقاليم والمؤسسات الديمقراطية المنبثقة ضمن الهيكلية التي يتم اعتمادها ديمقراطياً ، فالديمقراطية ليست تنفيذ قرار الأغلبية ، وحسب ، وإنما التزام الأقلية بتقدم الصفوف لتنفيذ المقررات التي تم اعتمادها ديمقراطياً ، وذلك لوضع حد نهائي للسلوك الفردي والانقسام والتشظي الذي دمر المشاريع السابقة ، النضال الجماعي ليس تنفيذ ما يريد كل فرد من الجماعة ، وإنما التزام الجميع بتنفيذ القرار الذي تتخذه الجماعة بالأغلبية .

بموجب كل ما تقدم وبمقتضاه نوجه هذه الدعوة للعمل بموجبها وبمقتضى ما تضمنته ، فطوبى لمن يلبي ، وطوبى لمن يشهد الميلاد .

الثلاثاء : 3 /تموز- يوليو/2012 ميلادية – 15/شعبان 1433 هجرية .

 

            بناء على ما تقدم أضع نفسي وما أملك من طاقات بتصرف المؤسسين ، راجياً قبول طلبي بالانتساب إلى هيئة المؤسسين لحزب ( ....................) في الجمهورية العربية السورية "المؤتمر القومي التأسيسي يحدد الاسم" هكذا ، ومنذ هذه اللحظة أعلن التزامي بما يقرره المؤتمر القومي التأسيسي رغم أنني ، ومنذ عقود أحلم أن يحمل اسم "الطليعة العربية" سأقترح الاسم على المؤتمر ، وسأكون أول من يلتزم قراره أياً كان .

    ثم ، أصرح بما يلي :

1 –  يشرفني أن أضع بين يدي الهيئة التحضيرية المركزية للمؤتمر التأسيسي القومي حصراً مشروع "العقد القومي للطليعة العربية" ، وللهيئة كامل الصلاحيات لاقتراح التعديل والحذف والإضافة والاستبدال بعقد آخر وعرضه على المؤتمر التأسيسي القومي ، والمؤتمر له القرار الفصل ، وأنا أعلن مسبقاً الالتزام بقرار المؤتمر التأسيسي القومي ، والعمل بموجبه . ( لطفاً الملحق رقم 1 )

2 -  يشرفني أن أطرح بين يدي هيئة المؤسسين في الجمهورية العربية السورية التي سيتم تشكيلها بموجب هذه الدعوة ، حصراً ، مشروع "عقد تأسيس حزب الطليعة العربية" في الجمهورية العربية السورية والهيئة هي صاحبة القرار ومفوضة بكافة الصلاحيات للتعديل والحذف والإضافة أو حتى استبداله بعقد آخر ، وإنني أعلن من الآن قبولي بقرار الهيئة ، والعمل بموجبه . ( لطفاً الملحق رقم 2 ) .

إنني إذ أتقدم بهذين المشروعين لا أقصد تحقيق سبق على أحد ولكن أهدف لتحريض الجميع لإعداد ملفاتهم ووثائقهم وتقديمها لمراجعها المتخصصة .

الثلاثاء : 3/تموز - يوليو/2012 ميلادية – 15 شعبان 1433 هجرية .

حبيب عيسى

E-mail:habeb.issa@gmail.com

الـــمــــــــــــرفـــقــــــــــــات:  

-        العقد القومي

-        عقد تأسيس حزب الطليعة العربية في الجمهورية العربية السورية