أولاد سَكيبة

أو

خروج الأقدام الحافية

 

 

رواية

 

 

منذر حلّوم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-1-

العسكر في المقبرة

 

    التحف العسكر سفح وادي الجراد الجنوبي صعودا إلى المقابر. بات واضحا أنّهم يعتزمون تجميع صفوفهم على الوهدة التي تعلو مقبرة آل مسعود بقليل, وهي أعلى مقابر العائلات, تنكشف تحتها الضيعة بأسطحتها وزواريبها. أن يكون لكل عائلة مقبرة, بل لكل فرع من فروع العائلة, كما هو حالنا بيت بومسعود, أمر طيّب يضمن عدم تصفية الأموات حساباتهم السابقة التي قضوا دونها.

    رأى الراعي علي جاد غبارا يتصاعد من مسالك الوادي, ورأى أرتالا رمادية تتسلق السفح مستترة بأجمات السماق وتخوم الصبّار. كان قد تناهى إلى مسامع الأهلين احتلال العسكر للسهل الممتد من (الهبطة) شمالا إلى (جبّور) جنوبا, ومن البحر غربا إلى (عين الدقاقة) شرقا, ومع أفول اليوم الرابع لضجيج الجرافات كان علي جاد قد فقد نعجة وحملين ناصعي البياض.

    في ذلك المساء, عاد علي جاد إلى حظيرته مغموما, ليس لأنه فقد النعجة والحملين, إنّما لأن مرآته خذلته, فلم تكشف له السارقين. لم يكن علي جاد قد فقد أيّا من خرافه أو نعاجه قبل ذلك اليوم. حين عاين الشيخ بوعلي حال ابنه وحال القطيع, رجا ابنه وهو العاجز المشلول إخراجه إلى صحن الدار وهناك تملّى حجارة السور الكلسية الهشة وراح يفتت قطعا منها برأس عصاه السنديان التي لم تعد تسعفه في الوقوف, وقال: أرى القطيع يذبح يا بني, وليس لبهلول مثلك وعاجز مثلي أن يحميه, وأمّا الله فلست واثقا من أنّه يريد. سق الأغنام إلى مرعى آخر يا علي ريثما يحلّها الحلاّل. أخشى أنك ستضطر إلى الرحيل في يوم قريب, وأمّا أنا فسأبقى لأموت هنا. ومع ذلك, فحالنا يا بني أهون من حال غيرنا بكثير, فليس لدينا إلا النعاج, وأما الناس فلديهم نساء وأطفال وأرزاق. نظر علي جاد نظرة مفزوعة نحو أبيه, فقد هاله أن يفقدنا نحن الصغار الذين سكنّا السفح معه نصنع المرايا التي تكشف لنا الخبايا.

    في ذلك العصر أخرج علي جاد نايه ونفخ فيه إيذانا بالرحيل, ومع أنّ الخراف شنّفت آذانها إلاّ أنها لم تستجب للنداء, فقد جاءها صوت الناي أبكر مما اعتادت وجاءها مبحوحا مكبوتا, وجاءها مسفوعا بموجات من وقع الأقدام الثقيلة تهتز لها الأرض وتنفخ غبارها ارتياعا. استجمع علي جاد أنفاسه وملأ صدره هواء ونفخ ثانية في الناي, وكدت أقول في الصور, فاستجاب الكبش ثم النعاج محفوفة بالحملان ثم بقية الخراف, وأما الكلب بازو فكان قد انبطح حاشرا بوزه بين قائمتيه الأماميتين مكتفيا برفع ذيله وتحريكه يمنة ويسرة كصحن رادار يلتقط ذبذبات الخطر. كان بازو كأنما يدرك أن وضعية الانبطاح هي الأضمن للبقاء على قيد الحياة. ومع ذلك فقد اضطر إلى النهوض واللحاق بالقطيع الذي راح يصطف في جورة (الميلكاني), استعدادا للانسحاب إلى حظيرة الدار المشفوعة برعاية الشيخ. كانت هذه الجورة هي قطعة الأرض الوحيدة التي جناها صاحبها من هجرته إلى أميركا أو (ميلكا), كما يسمّيها هنا الأهلون. وكان قد عاد من البرازيل بلا شيىء, سوى ذكريات عن الخمر والنساء. ولم تكن الجورة تزرع على الرغم مما أودعه فيها قطيع علي جاد من دبال ثمين, فقد انصرف عنها الميلكاني إلى فقره.

    ومن خلف جذع بلّوطة عجوز, راح علي جاد يراقب أرتال العسكر وكان قد اطمأن إلى أن خرافه مستترة عن عيونهم بجرف صخري يحدّ جورة الميلكاني عن منحدر السفح. أحصى علي جاد ما يربو على مائتي رأس قبل أن ينقطع ذيل الرتل الأخير من المتسلقين صوب  المقابر, جعب الرصاص على صدورهم ورشاشاتهم في أيديهم والرمانات اليدوية تتدلى من الزنانير التي تمنطقوا بها. لطالما أتقن علي جاد إحصاء الرؤوس بسرعة مذهلة, حتى وهي في وضع الحركة, وليس فقط رؤوس الغنم, وهي مهارة أكسبته إياها الحاجة إلى تفقد قطيعه بين الحين والآخر, ومعرفة فيما إذا ضل حمل ما أو شاة ما الطريق أو خرج عن حدود القطيع. ستجد من يرى في طريقة علي جاد في الإحصاء فرصة للهزء منّا نحن أهالي عين الغار جميعا على أساس أن القطيع يقع في جذر إدراكنا للحساب, بل وللرياضيات العالية, ولكن هذا ما لم يكن يشغل بال علي جاد ولا بال الوزير الذي رأى علاقة بين الفيزياء النووية ورعي القطيع وصناعة السحاحير فارتأى أنّ أفضل مكان يصرف فيه علمه ابن عمّ علي جاد, علي بن مسعود حائز الدكتوراه في فيزياء الذرة من معهد الفيزياء العالية في موسكو, وكان قبلا من صِبيان وادي الجراد الذين نشأوا على مرايا ابن عمّه علي جاد..أفضل مكان هو ورشة صناعة (سحاحير) الخضار في معمل (الخشب المعاكس), إلى هناك أمر الوزير مقاتله علي بالذهاب بعد عودته من الإيفاد, ولم يعترض الأخير ولم يمتعض, فقد كانت لا تزال ماثلة في ذهنه ذكرى بوتاشنيكوف وغريغورييف اللذين عرفا قيمة النجارة في معسكرات (كاليما). كان الدكتور من جماعة بليخانوف. وأمّا في ذلك اليوم الذي ستدور حوله الرواية فلسبب ما, لم يكن ضمن الفصيل الذي تصدى للعسكر, مع أنّ ما فيه من الجنون كان يكفيه لفعل ذلك معنا نحن الذين لم تكن تنقصنا حماقة استسهال فكرة مقاومة العسكر.

    كانت هوية العسكر تتعيّن بوقع أقدامهم على قبورنا وليس بالشعار المخاط على قمصلاتهم. لست أدري من أين جاء مترجمو أدب الحرب الروسي بهذه الكلمة التي تعجبني.

    في الوقت الذي كانت فيه عينا علي جاد الحزينتان تشيّعان آخر المتسلقين, كان قائدهم قد بلغ المقبرة واعتلى أحد القبور ومنه راح يتفحّص الشارع الرئيس في الضيعة الذي لا يتجاوز عرضه في أوسع مواضعه أربعة أمتار والزواريب المتعرّجة المتفرعة عنه, وذلك المكان حيث تلتقي عدّة أزقة وزواريب فيما يسمّى الساحة, حيث تقام الأعراس, وبعض أسطحة المنازل حيث ترتسم ملامح فتاة هنا وشاب هناك, راح الضابط يفعل ذلك بانتظار وصول بقية العسكر ليبلغهم بتفاصيل خطته.

    كان ذلك يوم الجمعة وكانت المقابر قد نظّفت جيّدا ولمّا تذبل الزهور التي أتى بها الأهلون إلى القبور ولمّا تفقد بعض حبّات البخّور, التي لم تحترق, بريقها في الغضارات بعد.

    قبيل وصول الضابط, يتبعه مساعدوه ثم طلائع المقاتلين, سمع ابن عمّي (تاريخو) ضجيجا مصدره ما وراء التخم المكتظ بأجمات العشتم الذي يرسم حدود المقبرة مع وادي الجراد. نبه تاريخو أمّه إلى الأصوات الغريبة المريبة, وكانت قد أتت به إلى المقبرة لتبخير قبر والده  فور عودتها من زيارة ابنها رامي الدبابة في الشام. أدركت المرأة من دنو الأصوات أن الوقت لديها أقل من أن تفكر فاستنجدت بغريزتها. شدّت امرأة عمي ابنها تاريخو مشيرة إليه بضرورة الصمت وأسرعت الخطو إلى جهة الجنوب لتنحدر عبر السفح الثاني لهضبة الموتى وتلتف عبر طريق حراجي طويل إلى الضيعة, ولكنها ما إن ابتعدت عشرات الأمتار حتى تمالكت نفسها فتوقّفت والتفتت إلى الخلف ولجأت إلى ثغرة ترى من خلالها شكل الضجيج المتوعد القادم من هناك. وأمّا تاريخو فقد شجّعه تماسك أمّه فتسلل بين الدغل ولطى خلف ظلمة الخضرة حين رأى أحدهم يعتلي قبر الشيخ, ثم رأى آخرين يتكئون على شواهد القبور وآخرين يحتشدون في الفسحة الترابية المعدّة للموتى الجدد. لم يكن تاريخو ولا سواه في ضيعتنا قد رأى أحدا يدوس قبر شيخ أو يعبث بشاهدة قبر قبل هذا اليوم الذي لا يشبه سواه, اليوم الذي جاء فيه العسكر, ولم يكن قد قرأ عن ذلك في التاريخ, وليس لأن التاريخ يخلو من أمثلة على ذلك, إنّما لأن ابن عمّي كان قد أطلق النار من بارودة صيد على كتاب التاريخ المدرسي, كان قد وضع الكتاب على (مدميك) من حجارة بيض رتّبت على شكل جدار بعد أن غنى أغنية فيها كثير من السباب والخلط بين الألحان, وجاء ببارودة أبيه الـ (دك) وحشاها بالبارود ثم بالخردق, وأطلق النار, فأصاب كتاب التاريخ المدرسي في مقتل. أطلق تاريخو النار على التاريخ الرسمي, فهو لم يكن يعرف شيئا عن التاريخ الآخر المعيب الذي تحدّث عنه بلزاك. لم تكن ضغطة تاريخو على الزناد إلا تجسيدا لرغبة معلّمنا في تمزيق صفحات التاريخ, المعلّم الذي اقتيد بعد ذلك, بأمد غير طويل, إلى المعتقل وأمضى فيه قرابة خُمس قرن. صفقنا للتصويبة القاتلة وصحت أنا "يعيش تاريخو" فرددها أبناء عمي, فصار اسمه تاريخو. كنا في حفلة قتل التاريخ ثلاثة الأبناء عم إضافة إلى تاريخو. ومعا, نحن الأربعة, قتلنا الجحش فيما بعد: علي خضيرة, وقد لقّبته أمّه باسم منادي الضيعة ذي الصوت الجهوري؛ والشيخ ونّوس الذي كنّته أمّه باسم الشيخ الرائع المجنون يونس ذي الصدر المفتوح العريض, وكانت قد أطلقت عليه الاسم راصدة فيه جذر جنون طيّب, وتاريخو ويعود الفضل إلى بارودة الدك في اسمه؛ وأنا علي جاد الصغير نسبة إلى الراعي فقد كنت أمضي على سفحه في صنع مرايا (بُغديدي) ساعات طوال.

    ما إن عاد تاريخو من المقبرة حتى أسرع إليّ بصحبة أخية الشيخ ونّوس. سألتهما عن ابن عمّنا علي خضيرة فقالا إنّه يلعب كرة القدم في (جورة الأعور) وهي منبسط من الأرض تنحدر إليه ثلاث وهاد تفصلها عن أطراف الضيعة الجنوبية الغربية أرض بور تتشمس فيها السحالي وتتنقّل فيها النطاطات بين الطيّون والبلاّن, وكان فيها شجرة زيتون عتيقة محيط جذعها خمسة عشر ذراعا, اقتلعوها فيما بعد ونصبوا مكانها مربعا من الإسمنت وكتبوا فوقه على قطعة من الصاج بلدية عين الغار. كنا نختبئ في جذع الزيتونة المجوّف وننصت من هناك قاطعين أنفاسنا إلى أكاذيب الرجال المقيّلين في ظلها.

    رأينا من الأفضل أن نذهب إلى علي خضيرة من أن يأتي إلينا لنتشاور في أمر العسكر الذين احتلوا المقبرة. كان أكبرنا الشيخ ونّوس على عتبة السابعة عشرة من عمره, وأصغرنا علي خضيرة على أبواب الخامسة عشرة. لم يخطر ببال أحد منا أن العسكر سيرجئون اجتياح شوارع الضيعة حتى حلول الظلام. كان ذلك يعني أنّ لدينا متسعا من الوقت لفعل شيىء ما. لم نكن ندري ما نفعل, فلم تصادفنا حالة كهذه من قبل. كنا فيما مضى نتحارب, أبناء الحارة التحتانية ضد أبناء الحارة الفوقانية.

    الحارة الفوقانية حارة المشايخ, وأمّا ما نسمّيه الحارة التحتانية فهي تجمّع من عدة حارات يقطنها العوام. نحن أبناء العم أحفاد سكيبا كنا ننتمي إلى الحارة التحتانية على الرغم من أنّنا من سلالة المشايخ. كان ذلك انتماء إلى الفقر يتجاوز المشيخة. ذهبنا إلى (جورة الأعور) محتضنين أملا بأن ينصرنا فريق (التحتانية) الذي يتدرّب هناك, وهو فريق حارتي (البيدر) و(بيت زريق) المحيطتين بالمدرسة الابتدائية, وبأن يتحمّس للخطة التي لا بد من أن نهتدي إليها عمّا قريب والتي من شأنها أن تطرد المحتلين من المقبرة. وعلى الرغم من أن أحدا من لاعبي الفريق لم يكن يحب أبناء المشايخ ونحن منهم, إلا أنّهم مع ذلك كانوا يحبوننا على نسبنا إلى سكيبا المرأة المتحدّرة من عائلات العوام, أباً عن جد, والتي ليس لأحد أن يتباهى عليها بفقره وضيق حاله وسذاجته وعيشه على سجيّته.

    أجل كان الناس يتباهون بالفقر, فالفقر هنا كان يعني الأصالة. وكان أفقرهم أقربهم إلى الناس. ومن سكيبا, كان لدينا ما يجمعنا بفريق الفقراء ويهيئ لرسم خطة مشتركة للدفاع عن الضيعة ضد العسكر الذين احتشدوا استعدادا للهجوم. وهكذا, ما إن تعثرنا بأولى حجارة الأرض البور ورحنا نصيح, حتى قطع صياحنا صوت علي خضيرة منادي الضيعة الحقيقي, وليس ابن عمّي صاحب الصوت المراهق:" يا عالَم يا ناس, يا أهالي الضيعة, الحاضر منكم يعلم الغائب, فيه عساكر احتلوا (الكشفة) ومقبرة (بيت بو مسعود), يا أهالي الضيعة لمّوا أولادكم من الشوارع وضبّوهم ببيوتكم, الله يسترنا ويستركم. يقول لكم المختار بوالعبد والشيخ بوعلي مروان أوعوا أحد يجحّش ويغلط بحق العسكر..".

    عندما سمعنا ذلك مكررا ثلاث مرّات بصوت علي خضيرة قذفنا ما تجمّع في حلوقنا من سباب مخلوطا ببصاق باتجاه العسكر والشيخ بوعلي مروان المساعد السابق في المخابرات العسكرية والمختار علي بوالعبد والد المساعد الحالي في المخابرات إياها, والذي عُزِلَ من أجل تنصيبه مختارُنا, الذي وإن كرهنا فيه ضعفه أمام زوجته إلاّ أنّه لم يكن بالسوء الذي ينتظره المرء عادة من ذوي العيون الزرق. عزل بأمر من امرأة تأمر فتطاع. كان يمكن تسمية ضيعتنا بـ(كفر المشايخ) مثلا بدلا من عين الغار, لكثرة ما فيها منهم. شتمناهم كما يليق بأبناء الشوارع الذين طالما فضّلناهم على أبناء الذوات, وعدنا إلى تدبّر أمر يفسد خطة الكبار.

    لم يكن أحد منّا على درجة من الحماقة للاعتقاد بإمكانية منع الاجتياح, ومع ذلك كنّا ننتظر في دواخلنا قوّة أسطورية تأتينا من السماء. كان من شأن طير أبابيل أن يكون مفيدا في هذه اللحظة وكان يمكن أن يقنعنا بما عجز دونه معلّم التربية الدينية ودروسه المشفوعة بالآيات والحكايات. لم نكن نفهم لماذا انتهى زمن فيالق السماء, فما زال الظالمون يحتلون الأرض ويستبدون بأهلها! ومع أنّنا لم نكن نفهم الاستبداد والظلم كما نفهمهما اليوم, ولم نكن نرى فيهما بعدا يتجاوز حدود أهل ضيعتنا وبساتينهم, إلا أن ذلك لم يكن يمنعنا من اختبار علاقة الله بالظالمين.

    وبعد صليات من الشتائم وركل الحجارة, تنادينا للجلوس نحن أحفاد سكيبا وأعضاء فريق التحتانية, وقد تجاوز عددنا الثلاثين, لتدبر خطّة للدفاع عن الضيعة أو للانتقام. اقترح الشيخ ونّوس أن يقسم كل منّا بشرف أخته ومن ليس لديه أخت بشرف أمّه على أن لا يفشي بما نتفق عليه لأحد. وافق الجميع, وتحلّقنا لإقرار الخطة اللازمة.

    راحت المنافشات كلها تدور حول أفكار مختلفة لقطع طريق العسكر إلى الضيعة. كان واضحا للجميع أن المجابهة أمر مستحيل, وأنّ أيا منّا لا يملك في بيته أكثر من بضع سكاكين مثلّمة, فالسكاكين الحادّة شأن علي اللحام والشيوخ, ينحرون بها الذبائح في الأعياد, وكان أكثرنا تسلّحا يستطيع سرقة حربة من صندوق جدّه, أو بارودة دك عن الساموك.

    كان يجب قطع طريق الضيعة عليهم. كان ذلك يعني تدبر حيلة ما في خمسمائة الأمتار التي تفصل المقبرة عن أوّل بيوت الحارة الفوقانية, ويعني ضمان أن يسلك العسكر الطريق الذي تدبّر الفرنسيون أيام الانتداب أمر تعبيده قبيل رحيلهم. لكن ذلك ما لم يكن لأحد أن يضمنه. فليست أم تاريخو أكثر فطنة من قائد تشكيل المهاجمين, ومن شأن هذا الأخير أن يفكّر بالانحدار من المقبرة نحو (جورة البلان) ودخول الضيعة من هناك, ويلتف مع شارعها الرئيس عبر تعرجات حارة المشايخ, ثم يقسم تشكيله إلى فصيلين أحدهما ينحدر عبر زقاق (بيت شحّود) إلى ساحة (بيت حمدان) ويتابع من هناك إلى ساحة (حسينه), وآخر يتابع اجتياح الشارع الرئيس نزولا إلى (الباطوس) ثم ساحة (مسيعود), ثم قد يلتقي الفصيلان ويعودان إلى الاندماج في باحة المدرسة, فينحدر العسكر من هناك إلى معسكرهم الجديد, أو في (البقجة) فيسلكون الطريق الجديد المؤدي إلى مدخل القصر الذي نصبت خيامهم على مقربة منه. كان ذلك يعني أنّ أيّاً من خططنا لن تنجح ما لم نحدد طريق دخول العسكر إلى الضيعة وطريق خروجهم منها, ليكون كميننا ممكنا في أحد الطريقين.

    في البداية, اتفقنا على أنّ من الأفضل لنا أن نوقع بالعسكر أثناء خروجهم من الضيعة فهذا يكسبنا المزيد من الوقت ومسافة الأمان الفاصلة عنهم. ولكن ذلك كان يعني أن نحدد أي الطريقين سيسلكون؛ طريق الوادي الذي جاؤوا منه لاحتلال المقابر أم طريق الاسفلت الجديد المؤدي إلى القصر. أرسلنا نسيبة وكانت الفتاة الثانية في فريق التحتانية. لم يكن ممكنا لأحد أن يسبقها في الجري. كان ثمّة فتاة أولى في الفريق. الأوّلية هنا لا علاقة لها بالمهارات. فلكل منهما مهارتها الخاصة وليس في كرة القدم فقط. إنّما الأوّلية لتاريخ دخول الفريق. أرسلنا نسيبة في مهمّة استطلاع إلى طريق الكاديك التي تتقاطع مع طريق الإسفلت الجديدة المؤدية إلى القصر, لمعرفة ما إذا كان أحد ما من العسكر يربض هناك ويستطيع أن يرانا فيما لو قرّرنا نصب كميننا في ذلك الموقع. وأرسلنا ابن خالتها القط, وقد سمّي بالقط بفضل من