رواية "سقط الأزرق من السماء" للروائي منذر بدر حلُّوم

وقائع الماضي تستقرئ المستقبل

علي العائد*

 

يعود الروائي منذر بدر حلوم في روايته "سقط الأزرق من السماء" إلى بداية فترة الثمانينيات من القرن العشرين، ليقدم صورة واعية لأبطال روايته، بعد أن تجاوزوا مرحلة طفولتهم في بداية تشكل منظومة القمع في سوريا، حيث حماة عام 1980، وما جرى من فرز طائفي على خلفية سياسية. وفي هذا الفرز تطالعنا مصائر شخصيات تعبر في أساسها عن ملامح بيئة ساحلية، وهم وإن كانوا أفراداً إلا أنهم يعبرون عن علاقات اجتماعية عامة تتراوح بين الصداقة والعداوة وما بينهما، حيث الخسة والحسد والكذب في مقابل أخلاق الفرسان التي تظهر أكثر ما تظهر حين نظن أن الشر استطار وأجبر الحق على الخنوع. ومع أن النماذج التي يقدمها الروائي تفترض بشكل أولي أن يتصف أبطاله بالانسجام، كونهم زملاء وجيران في بيئة واحدة، لكن التركيب النفسي والخلفية الأسرية والاجتماعية، وهشاشة التكوين النفسي لـ"عزيز"، مثلاً، جعلت منه عدواً لزملائه وأهله ومواطنيه عموماً، بل ولنفسه أيضاً، حيث امتهن أن يكون مخبراً، يشي بأصدقائه وزملائه تسولاً لمكانة عند من لا مكـانة له، فالقوة قد تعطي لأحد ما مكانة التبجيل والاحترام لكن ذلك يبقى ابتلاء واختباراً لا يلبث أن يتلوه ابتلاء ممن هو أقوى في تداول الأيام.

تبدأ الرواية بتفاصيل مقلب يحضره الصغار في المدرسة لصاحب بدلة "الخاكي"، والأخير هو لون اللباس العسكري لمدرِّس التربية العسكرية في المدارس السورية، وصاحب الخاكي كان يُرعب التلاميذ بتسلطه وإهانته لهم، الأمر الذي شكل رد فعل جعل طلاب الثانوية، درويش وكاسر وغريب، يضعون سلة المهملات في الصف في رأس بدلة الخاكي، وفي داخلها كيس مليء بالطلاء الأحمر، وعندما يفيق بدلة الخاكي من الصدمة الأولى ويهم بمعاقبة الأولاد، يطالعه من بقي صامداً من الطلاب ولم يهرب بسكين "الكباس" في يده، فيهرب بدلة الخاكي. والنتيجة إلغاء الصف الحادي عشر في المدرسة وفصل عدد من الطلاب، ونقل الباقين إلى مدارس أخرى متعددة.

في هذه الحادثة التي تشكل الخلفية التي يتمتع بها أبطال الرواية، نجد بذور التمرد التي تقود الأحداث إلى نهاية مفتوحة، إذ إن الحدث لايزال مستمراً، وحتى آخر كلمة في الرواية لا يبدو أن البنية التحتية للفساد وصلت إلى المنعطف الذي يمكن فيه تغيير مصائر أبطال الرواية، فالأوضاع لم تصل بعد إلى ذلك السوء الذي يجعل كل هذا الضغط وكل الكبت يشكل انفجاراً، أو ثورة، على البنية القائمة.

قد لا يشكل الدخول في مفردات الرواية فائدة، ولذلك نترك لاجتهاد القارئ أن يكتشف ذلك، أما ما يمكن أن نقول به فهو كيف عالج الكاتب موضوعه، وكيف قدم مفردات قصص أبطاله، وبأي لغة ولسان تحدث، وهل كان يراعي درجة تعلم وثقافة ووعي الأبطال؟

قد نمثِّل على لغة الكاتب بالجملة التالية: "تمزقت السماء عن رعد عظيم. صمتت دراجة مسعود. مسعود ناقل جيد للكهرباء!". من هنا نكتشف الاستخدام البارع للغة منذر بدر حلوم، التي تختزل وتصور دون أن تدخل في شبهة الجملة الشعرية، التي تهوم وتفتح أبواب الاحتمالات، لكنه هنا يدهشنا بالقول إن مسعود تعرض لصاعقة. الجملة والفكرة والصورة انتهت هنا، لكن الإيحاء مستمر.

يقدم الروائي جملة من الأشياء عن أبطاله الشباب الجامعيين، الذين تستقر انتماءاتهم السياسية في حيز اليسار، حتى لو لم يكونوا منتمين إلى أحزاب، ومن هنا تبدو لغتهم أعلى مستوى مما تبدو عليه الحياة الواقعية البسيطة لأهاليهم، أو للشخصيات الفاسدة والوصولية، أو للضباط الذين يهمهم تنفيذ حرفية أوامرهم؛ وبين هذين الواقعين المتجاورين على الأرض، والمتباعدين على مستوى الحلم، نجد أن الضابط والمخبر يسعيان إلى أهدافهما مباشرة، بقوة السلاح، أو المكيدة إذا أمكن، وفي المقابل يشكل درويش ونجوى وكاسر ممثلي الصورة الحلم للناس الصامتين، والثورة على الأعراف البالية في الحياة والفن والثقافة، في محاولة لصناعة الغد الذي حاولت بدلة الخاكي اغتياله، ثم تسلم الطائفيون راية "فرِّقْ تسُدْ" لجعل المجتمع الواحد متناحراً ومنشغلاً عن محاربة الفساد الذي تسلل حتى إلى مائدة البيت الواحد.

وفي كلام الشخصية الرئيسة في الرواية، ينقل الراوي عن درويش، معبراً عن أحلام كيانه "كان لا يعجبه أن يكون هو نفسه مجرد نقطة في ذهن أحد ما، مجرد أحرف على ورقة، يمكن أن تُشطب، فلا يعود له وجود هناك. ثم صار يتساءل إن كان يبقى له وجود حقيقي هنا إذا أُلغي وجوده هناك".

أما درويش نفسه فيقول "الذاكرة نذلة، وليست مخزن حب، كما تقول! نذلة وأسلوبها وضيع. إذا كان هناك شيطان بالفعل فلا بد أن يكون مسكنه الذاكرة، فهو يرتع هناك، ويعيد ترتيب الأشياء التي ترفض السماح لنا برؤيتها، ويعيد صياغتها بطريقته الخاصة ليقدمها لنا وللآخرين في غفلة منا، ويفعل ذلك دائماً في الأوقات غير المناسبة".

ولأن درويش فنان، درس الفن في الجامعة، ثم في الاتحاد السوفياتي قبل أن يتم ترحيله من ذلك البلد السابق كونه طرح أفكاراً تتناقض مع العقيدة الشمولية، فإنه يلجأ إلى اللغة التي يحبها، وهي صفة الفنان الذي يتقن القواعد فقط كي يقوم بتجاوزها وهدم أسسها "الجمال لا يولد إلا من الحرية. على الرسام أن يترك القواعد، فهي ليست للفن الحقيقي. يمكن لكل إنسان أن يكون فناناً إذا استطاع أن يكون حراً".

وتتقاطع أفكار درويش مع أفكار صديقه الأقرب إلى نفسه، كاسر، والأخير يقدم اتجاهه في الحياة بجملة واحدة "مبدئي يا صديقي هو أن لا أكون في صف الظلم والظالمين. أنا ضد الظلم أينما كان وكيفما كان".

وفي لغة الروائي منذر بدر حلوم، نجد وضوحاً صادماً، ولا عجب بعد ذلك أن الرواية ممنوعة من التداول في سوريا، ولعل التطرق إلى الأمراض الطائفية التي استشرت في البلاد لا تحتاج لأقل من هذا الوضوح حتى يتم حذفها من قائمة المسكوت عنه، فـ"في الصمت تتجمع الوساخات"، وكلما كانت الأفكار مطابقة لمنطوق الكلام كلما كان الخلاف أوضح والحل أقرب. ولعل الكلام الأكثر وضوحاً، والذي لا يعرفه كثيرون، هو ما عبَّر عن الكاتب في مواضع عديدة من الرواية، وأهمها ما يختص بموقف الطائفة من الحرب التي تعرضت لها مدينة حماة عام 1980، حيث استقر في أذهان كثيرين، بدافع الجهل من جهة، والتجهيل الذي روجت له السلطة من جهة ثانية، أن تلك الحرب كانت بين طائفتين، لإبعادها عن أهدافها السياسية الحقيقية، والتي لم تعدُ كونها تمرداً مسلحاً ضد سلطة جائرة.

يبقى لهذه الرواية فضل تقديمها هذه الصورة التي أضأنا على بعض من ملامح أفكارها، دون أن نفضح كل ما فيها من فن وحياة، لكن الأهم، على مستوى الفن الروائي، هو ما قدمه منذر بدر حلوم من اعتماد على خلخلة الزمن في تسلسل الأحداث، والتنقل بين أكثر من راوٍ في المواضع التي تتطلب رؤية موشورية، كذلك يتبع تبدل المكان حركة غير خطية في تطور مصير شخصية درويش، حتى أن في الاسم ذاته أكثر من دلالة، كونه لا يحمل وعي مستكيناً، وكونه لا يسلم جدلاً بالأفكار المستقرة في محيطة وفنه وثقافته، فوعيه هو نقيض منطوق اسمه. أما كلامه فهو "من واجبنا يا صديقي ليس فقط أن نبقى على قيد الحياة، بل أن نحيا، أن نعيش كما يعيش الناس. الناس وليس الدواب!". وفي هذا المنطق ما يُحسب للكاتب من رؤيا مستقبلية رأت ما يحدث في عام 2011 قبل أكثر من سنتين، أي عام 2009، وهو عام صدور الرواية عن دار الكوكب في بيروت.


 

* كاتب سوري.