سورية والأزمة الراهنة: حصيلة عامة أولية

ياسين الحاج صالح


لا يكاد ينقضي يوم دون أن يؤكد مسؤولون إسرائيليون، عسكريون وسياسيون، أنه لا نية لديهم لشن الحرب على سورية، أو تصعيد المواجهة الجارية في لبنان بفتح جبهة ضدها. ليس ثمة ما يسوغ الثقة بالإعلانات الإسرائيلية، بل إن تواترها شبه اليومي يحث المرء على الارتياب في مقاصدها، إن لم نقل الإيمان بعكسها. ورغم أن «الدليل العقلي» المزدوج، أي انتفاء مصلحة إسرائيل في توسيع رقعة الصراع بينما هي لم تحقق ما كانت تأمله من نجاح في الحيز اللبناني، واجتناب ما قد يتسبب في طرح قضية الجولان على الأجندة الإقليمية والدولية، ينزع إلى دعم صحة الإعلانات الإسرائيلية، إلا أن التعويل على عقلانية السلوك الإسرائيلي ليس من السداد في شيء، بالخصوص لكون إدارة بوش، وهي من هي في مجال العقلانية، شريكة في كل وجوه الحرب هذه. والحال، قد يكون توسيع دائرة المواجهة مخرجا من إخفاق محتمل في الحيز اللبناني. والعكس محتمل ايضا. فقد تفضل الحكومة الإسرائيلية مجابهة سورية، وإن بطريقة مختلفة عن مواجهة لبنان (توسل الإرهاب والعمليات السرية، ضرب مرافق عسكرية أساسية...) بعد الانتهاء من الطور اللبناني، إن سجلت نجاحا مهما فيه. وفي الحالة هذه، يكون غرض إعلاناتها المسالمة تخدير أعصاب الحكم السوري كيلا يشوش عليها مخططاتها باكرا.

هذا كله يدور في فلك التخمينات، لا يتعداها. فإذا استند المتابع على الوقائع القابلة للملاحظة وحدها، تبدى له أن السلطات السورية أضحت في موقع أقوى مما كانت منذ صدور القرار 1559 في خريف 2004، وربما منذ الاحتلال الأميركي للعراق في ربيع 2003.

في المقام الأول، يبدو زمن ما بعد اغتيال الرئيس الحريري، وما شهده من انسحاب القوات السورية من لبنان والتحقيق الدولي وفكرة المحكمة الدولية...، موغلا في القدم. فمنذ 12 تموز (يوليو) دخل لبنان، وبالمعية دخلت سورية، زمنا مختلفا تماما، أخذ ينعكس على الاستقطابات والتحالفات اللبنانية، الداخلية والإقليمية والدولية، محدثا تبدلا فيها قد يكون طويل الأمد. لقد تحول «التناقض الرئيسي» في لبنان من مواجهة النظام السوري وهيمنته إلى مواجهة الحرب الإسرائيلية، وتكونت حول التناقض الأخير أكثرية جديدة، قد تزداد رسوخا بقدر ما تتمادى إسرائيل في وحشيتها ويطول أمد حربها.

في الزمن الأول كان النظام السوري في موقع دفاعي متفاوت الحرج، لكنه كان دوما في موضع المشتبه فيه والمستهدف بقرارات دولية، وموضع مراقبة وتسليط كثيف للضوء على سلوكه الإقليمي، وبدرجة أقل الداخلي. اليوم الانتباه كله مسلط على ما يجري في لبنان، والتحالف المناهض لنظام الرئيس بشار الأسد منشغل بأمر مختلف تماما. وبينما كان النظام في زمن ما بعد اغتيال الحريري هو المشكلة، وليس جزءا منها فحسب، فإنه يبدو في ظل الوضع المستجد جزءا من الحل، إن لم يكن الحل كله.

في المقام الثاني، تغير الزمن الداخلي السوري. سجلت قضية الديموقراطية حضورا ثابتا في السنوات الست المنقضية، وبرزت معارضة سورية ناشطة بدرجة معقولة، بلغت أعلى ذراها في خريف العام الماضي مع صدور إعلان دمشق. ورغم أن النظام كان دشن منذ الربيع الماضي جهدا منظما لتفكيك الحركة الديموقراطية تمثل في اعتقالات، وفصل من العمل، ومنع من السفر، وأشكال مختلفة من التضييق على النشاط العام المستقل والمعارض، إلا أن الحرب في الجوار اللبناني أعادت هيكلة أجندة العمل العام في البلاد، فدفعت القضية الديموقراطية إلى الوراء، و»المسألة الوطنية» إلى الأمام. وأخذ معارضون كثيرون يعودون إلى تسويغ مطالبهم الديموقراطية بمردودها المحتمل على مستوى الصمود والتماسك الوطني، وهي ممارسة إيديولوجية بدا أن الحركة الديموقراطية تجاوزتها، بعد احتلال العراق بالخصوص.

إلى ذلك، كشف تفاعل السوريين مع الحرب عن عمق عدائهم لإسرائيل، وعن أنهم يتوحدون حول هذا العداء، متجاوزين انقسامات دينية وطائفية، قلما يتجاوزونها في صدد أي شيء آخر. ويزكي هذا المناخ روح الإجماع والاستنفار والتعبئة التي تضعف أية مطالب ديموقراطية محتملة، والتي توفر على النظام عبء صنع الخطر الداهم الذي لا بد من «الوحدة الوطنية» لمواجهته.

في المقام الثالث، تتحول سورية إلى موقع تقاطع افتراضي للمبادرات والخطط السياسية لتسوية ما بعد الحرب أو لتقصير أمد الحرب ذاتها. موقع افتراضي لأن صوت دعوات من الأمم المتحدة ومن أطراف أوروبية ومعلقين ومراكز أبحاث أميركية أخذ يعلو داعيا إلى دور سوري في ضبط حزب الله أو نزع سلاحه وتهدئة الأوضاع على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. لم يدعُ أحد، ومن غير المرجح أن يدعو احد، إلى عودة القوات السورية إلى لبنان، لكن تكرر الدعوات هذه يعادل اعترافا متأخرا بـ»خطأ» الانسحاب السوري منه في نيسان (ابريل) من العام الماضي، وهو الانسحاب الذي ما زالت رضته طرية لم تتقادم، ولم يغفرها أهل الحكم في سورية.

ما يحول دون تحول الموقع الافتراضي إلى ملتقى فعلي للمبادرات السياسية هو أن الأميركيين، الطرف الدولي الفاعل وصاحب الكلمة العليا فـــي الحرب هذه وفي الترتيبات السياسية التي قد تتلوها، ما زالوا يراهنون على الذراع العسكري لإسرائيل في سحق حزب الله وفتح الباب أمام تسوية الملفات السورية والإيرانية والفلســطينية وفقاً لما يناسب الأميركيين والإسرائيليين.

لا تمنع الصفة الافتراضية أن الحكم السوري يستفيد منذ الآن من أشياء متناقضة: من شرط الحرب بحد ذاته لكونه يذكّر بالزمن السوري في لبنان، أيام كان يتعذر فيه وقوع انفجار على هذا النطاق؛ ومن رغبة بعض الأطراف الإقليمية والدولية في انتهاء الحرب سريعا، وهي تضعه عند تقاطع طرق المبادرات الديبلوماسية والخطط السياسية المحتملة لإنهائها؛ وكذلك من المناخات النفسية والإعلامية المواكبة للحرب، طالما هي لا تمتد إلى سورية، وطالما أن حزب الله يبلي فيها بلاء عسكريا حسنا.

بعبارة أخرى، سورية كفيل محتمل لوقف مستدام لحالة الحرب ومنع تجددها، ووسيط محتمل في إنهاء جولة الحرب هذه، وحليف للمحارب اللبناني. وهي تجني في الأحوال جميعا مكسبا ما كان في البال قبل شهور. غير أن هذه كلها تقديرات مشروطة إلى حد قد يحكم بأن يبقى الموقع الافتراضي افتراضيا. وشرطها الأساس هو أن يحتفظ حزب الله بقدرة معقولة على التحكم في مسار التطورات على المستويين العسكري والسياسي، أي أن لا تضعف قدرته على توجيه الضربات لإسرائيل، وأن يبقى المستوى الحالي من التفاهم السياسي اللبناني قائماً. فهذا وحده هو ما قد يدفع الأميركيين إلى التماس تفعيل الموقع السوري، وما يمهد لدور سوري جديد في لبنان، وإن بوسائل مختلفة. وإنها لمفارقة ساخرة أن الدور السوري في لبنان بات محمولا على تقليص المسافة بين خصومه السياسيين وحزب الله، وأن إسرائيل قد تكون «صاحبة الفضل» في إعادة دور ضابط للحياة السياسية اللبنانية.

قد يُرى أن التطورات الموصوفة هنا ظرفية ومؤقتة. لكن في «الشرق الأوسط»، في سورية خاصة، «لا شيء يدوم أكثر من المؤقت». أيا يكن، سيكون مشهد ما بعد الحرب الإسرائيلية اللبنانية مختلفا كثيرا. يستحسن منذ الآن التفكير في تحديات المستقبل، بدلا من الاكتفاء بمحاولة الإجابة عن أسئلة الماضي.