الخطيئة الفلسطينية وتوابعها!
صلاح الدين حافظ
لا يسعنا ونحن نتابع ما يجري في الساحة الفلسطينية من صراع واقتتال، سوى دعوة الفرقاء الفلسطينيين الى العودة الى الرشد، والى التفاهم والتصالح، وصولا لوفاق وطني عام، كان بالأمس نموذجا فريدا، وأصبح اليوم سرابا تلوثه خطيئة الفتنة وشبح الحرب الأهلية...
ويعز على هذا القلم، الذي قضى جل عمره مؤيدا للقضية الفلسطينية ومدافعا عنها، في كل الظروف والأحوال، ان يتهم بعض القادة الفلسطينيين بكسر أيقونة الثورة الفلسطينية، ألا وهي الوحدة الوطنية، وذلك باستباحة دمها وتمزيق صفوفها، وتحويل الحلم الثوري الفريد الى كابوس دموي رهيب، لا يستفيد منه الا العدو الصهيوني الشرس، وإلا كل شامت من كل صوب!
الاقتتال الفلسطيني الدائر تعبير صريح عن صراع على السلطة والنفوذ، بين أطراف فلسطينية كانت حتى الأمس القريب، متوافقة على هدف تحرير الأرض المحتلة، وبناء الدولة الفلسطينية وإنقاذ القدس سلما او حربا، وحين يتحقق هذا الهدف الاستراتيجي يمكن ان تختلف الاطراف على طريقة إدارة الدولة وحكم الوطن المتحرر. ولكن المأساة جرت بأسرع مما يتصور عاقل، حيث تقاتلت هذه الاطراف، خصوصا <فتح>و<حماس> قبل ان تبدأ حتى الطريق السليم لتحقيق الهدف، فإذا بها تكسر أيقونة الثورة، وتلوث طهارتها وتخرق ميثاقها، بل تلوث تاريخ أقدم حركة تحرر وطني في العالم، وتسيء الى مبادئها ورموزها وقادتها التاريخيين!
وإلا فماذا يعني هذا العنف بين الأخ وأخيه، وماذا يعني القتل المتبادل والمتعمد بين الفتحاويين والحمساويين، وأين هي الوثيقة المقدسة لحرمة الدم الفلسطيني، وكيف ضاعت البوصلة الوطنية، التي طالما حافظت عليها الثورة الفلسطينية عبر العقود، في ظل الضغوط الأجنبية والعربية والاستفزازات الاسرائيلية.
وها هو التاريخ ونحن من خلفه. نُحمل الجيل الحالي من القيادات الفلسطينية، مسؤولية تحول الحلم الثوري النبيل، الى كابوس دموي رهيب، أضاع او كاد يضيع الهدف الرئيسي في الاستقلال والتحرر، على عكس ما كانت تعمل من أجله القيادات التاريخية السابقة، بل على نقيض ما فعلته كل الثورات الوطنية في العالم.
نعلم ونفهم ونقدر الضغوط الرهيبة التي تمارس اليوم على القيادات الفلسطينية، وندرك مدى خطورة الحصار الحديدي المفروض على الشعب الفلسطيني وقياداته، الذي يشمل طوقين: حصارا اسرائيليا مدعوما بالأسلحة القاتلة، وخارجه حصار دولي مساند لطوق الحصار الأول، عقابا للشعب الفلسطيني الذي خدعته أزياء الديموقراطية الزاهية وربما الزائفة، فأنجز انتخابات نزيهة شهد بها العالم كله، وفي مقدمته المراقبون الاميركيون والأوروبيون، وانتخب في يناير (كانون الثاني) الماضي، مجلسا تشريعيا ديموقراطيا، ثلثاه على الأقل من حركة <حماس>، التي كانت بالأمس في المعارضة، وتراجعت أسهم <فتح>التي كانت في الحكم، تعبيرا حقيقيا عن تداول السلطة عبر صناديق الانتخابات، لكن ذلك لم يأت، برغم الديموقراطية، على هوى أدعياء الديموقراطية في اسرائيل وأميركا وأوروبا بل وفي العالم العربي، فانقضوا على التجربة مقاطعة وحصارا وإذلالا وتجويعا، حتى تنتكس وترتد، ويرتدع هذا الشعب الأبي.
نفهم ونقدر كل ذلك، لكن الذي لا نفهمه حقا ولا نقبله، هو ان ينفجر الصراع السياسي والاقتتال المسلح، بين طرفي المعادلة، فتح وحماس، على نحو ما نشهده ويشهده العالم كله، تفتيتا للوحدة الوطنية واستباحة لحرمة الدم الفلسطيني، فإذا بالشعب المحاصر يدفع الضريبة مرتين من لحمه الحي وأرواح أبنائه، ويتعرض للقتل مرتين بسلاحين، قتلى وشهداء بسلاح اسرائيلي لا يتوانى عن العنف الدامي، وقتلى وشهداء بسلاح فلسطيني لا يعرف حدود الصراع وأساليب إدارته، بالديموقراطية نفسها التي سبق ان أدهشت العالم بحسن ممارستها في انتخابات يناير (كانون الثاني) الماضي!!
ولأننا من الذين لا يسرفون في اتهام فتح وحدها او السلطة الوطنية بقيادة محمود عباس وحده، او حركة حماس وحدها، بإشعال هذا الاقتتال الداخلي المسلح، فلكل منهم أخطاؤه وخطاياه، يجدر بنا ان نتعمق قليلا في الأسباب والنتائج المتدحرجة مثل كرات الثلج، بل مثل كرات النار!
فلقد أدت اتفاقيات اوسلو ,1993 الى دخول الزعيم التاريخي الراحل ياسر عرفات، وكوادره وبعض قواته، الى غزة والضفة الغربية <تحت الاحتلال>عام ,1994 وفوقها بدأ بناء أسس <السلطة الوطنية>على شاكلة حكومة ومؤسسات غير مكتملة، وفق أرض محتلة تسعى لبناء دولة وهي منقوصة السيادة أملا في استكمال هذه السيادة بتحقيق الاستقلال الوطني الكامل، وفق قرارات الأمم المتحدة، واتفاقيات ومبادئ مؤتمر مدريد ثم أوسلو وما تلاها.
وفي ظل هذه الأوضاع غير الطبيعية، حيث سلطة بلا حكومة حقيقية، وحيث شعب بلا دولة واضحة المعالم، اختلطت الأوراق سواء بين المنظمات الفلسطينية المتنافسة، او بينها وبين التدخلات والاستفزازات الاسرائيلية، في غياب دور فاعل لدول العالم، بما فيها الدول العربية ذاتها.
ولم يكن غير عرفات القادر بحكم زعامته الكاريزمية ونضاله التاريخي، على فرض سطوته وتحكمه وقراره حتى على المختلفين معه، بمن في ذلك زعيم كاريمزي آخر هو الشيخ أحمد ياسين مؤسس وزعيم حماس الملتصق بأرض غزة، وقادة آخرون في الخارج مثل جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية ونايف حواتمة زعيم الجبهة الديموقراطية وأحمد جبريل، وكلهم ظلوا في الخارج.
لكن عرفات الذي طالما انتقدنا بعض ممارساته، حوصر عقابا على تمسكه بالهدف الاستراتيجي وبالثوابت التاريخية لأيقونة الثورة، ثم قتل مسموما بالسم الاسرائيلي، وقتل ياسين بالصاروخ الاسرائيلي، وانتقلت القيادة في فتح وحماس الى محمود عباس وخالد مشعل، من كاريزما عرفات الى دهاء عباس وحرفيته، ومن رجاحة عقل ياسين الى حيوية وشباب مشعل وهنية والزهار وغيرهم... اختفى القادة التاريخيون في الحركتين، بل في المنظمات الاخرى بتواري حبش وحواتمة وجبريل، وبرزت أجيال اخرى، منها من يريد الاستئثار بالسلطة والثروة والنفوذ، استنادا للإرث التاريخي، ومنهم من يتعجل ركوب السلطة استنادا للنضال اليومي على الأرض، وفي سبيل ذلك تبادل الجميع كسر المحرمات وصولا لاستباحة الدم الفلسطيني!
هكذا تحولت خرائط العمل الفلسطيني، صراعا على السلطة فوق جثة الوحدة الوطنية، وتراجع عند كثيرين مفهوم المقاومة لتحرير الوطن، لصالح تقدم مفهوم الحكم والاستيلاء على السلطة من دون شريك، في ظل غياب أسس الدولة ومفهومها وقبل اكتمال قواعد قيامها وشرعيتها والاعتراف بها واقعيا، لقد تسابق الجميع على الاستئثار بجلد الدب قبل اصطياد الدب... فجرى ما جرى ويجري الآن.
ورغم الصراع على السلطة والثروة والنفوذ، الذي أشاع فسادا لا تخطئه العين، ورغم ضياع معالم أجندة وطنية موحدة وتفرقها بين القبائل المتصارعة، ورغم ضياع هيبة القانون والنظام، في كانتون غزة المحاصر، وفي أرجاء الضفة الغربية المشتتة الممزقة بقوة الاحتلال، ورغم التجويع وفرض المقاطعة الأميركية الأوروبية على الفلسطينيين تحت حكم حماس، الا ان كل ذلك لا يبرر كسر المحرمات المقدسة باستباحة الدم الفلسطيني عبر الاقتتال بين حركتي فتح وحماس، ما يحقق في النهاية الهدف الاسرائيلي بتفجير الداخل الفلسطيني ليسهل التهامه نهائيا.
ولقد بلغت الفتنة مداها خلال الفترة الأخيرة، تغذيها اسرائيل وتلهبها أميركا وأوروبا. ويساندها العزوف العربي الواضح. والفتنة هي الخطيئة الكبرى التي لن تغفر، حين يتحول السلاح الفلسطيني من التوجه نحو العدو الى التصويب في صدر الشقيق، وحين يتحول الوضع الى سلطتين متناحرتين برأسين متقاتلين، يدعي كل منهما انه وحده يملك الشرعية، وحين ينفلت الأمن، ويتحول السلاح الفلسطيني الواحد في يدي سلطة موحدة، الى أسلحة مختلفة متقاتلة في أيدي سلطات متعددة، تتعدد فيها بل تتصارع مراكز اتخاذ القرار، ففي فتح الداخل قرار يمسك به الرئيس أبو مازن، وفي فتح الخارج قرار آخر يمسك به فاروق قدومي، وفي حماس قرار يمسك به خالد مشعل في الخارج، وقرار يمسك به اسماعيل هنية في الداخل، ناهيك عن استقواء كل منهم بمساندات خارجية متناقضة، سواء الدعم الغربي العربي لفتح، او الدعم الايراني السوري لحماس، وفوق الجميع تلعب اسرائيل وتستقوي بسلاح القتل والعنف والتحريض!!
اقتتال وصراع واستقطاب رهيب وفتنة كانت نائمة فالتهبت، وقع في أتونها الشعب المقهور المحاصر، الذي ضرب الفقر والبطالة 65 في المئة منه بين عشية وضحاها، والذي يعاني سوء التغذية والعطش والإظلام، ناهيك عن القتل المنظم والاغتيال المستمر والاعتقال الدائم، الذي تمارسه اسرائيل بلذة مرضية وشماتة هائلة، لم تتحقق لها إلا بفضل القيادات الفلسطينية التي كسرت أيقونة الثورة!
المذهل والمؤسف والمزعج في الأمر، ان هذه القيادات الفلسطينية المتصارعة، لم تدرك حتى الآن ان صراعها على امتلاك جلد الدب قبل اصطياده، قد ضاع، بعد ان هرب الدب بجلده، وبعد ان جرى تشويه وجه الثورة، ولم تفهم حتى الآن ان المستفيد الوحيد هو العدو الرابض على الارض وفوق القلوب، ولم تدرك حتى الآن ان الشعب المحاصر المقهور لن يستسلم او يصبر طويلا على ما جرى، بعد ان ضاقت به الصدور وزاغت الأبصار في ظل استباحة دم الأبناء على أيدي الأشقاء المتصارعين!!
ونحن كذلك لم نعد نطيق صبرا أمام هذه الخطايا، التي تسعى لخيانة دم الشهداء ولتشويه وجه أعظم ثورة تحرر عربية وعالمية، ولتبديد الانتفاضة الشعبية النبيلة وتحويلها الى فلتان أمني تارة، والى صراع على شكل الحكومة ونوع وزرائها تارة اخرى، ولتقويض كل المبادرات الهادفة الى تحقيق الوفاق الوطني واستعادة الوحدة الفلسطينية مرة اخرى، طريقا نحو الدولة المستقلة ونحو استعادة القدس من غاصبيها...
لن نصبر، ونتمنى الآن ان تذهب كل هذه القيادات الى الظل بأخطائها وخطاياها، وتترك الشعب الصامد الصابر، يفرز قيادات جديدة قادرة على ادارة دفة الصراع التاريخي مع العدو الصهيوني، بحسم وحزم، وبأمانة صرنا نفتقدها في ظلام التآمر وسراديب المناورات وساحات الفتنة الداخلية، والاقتتال الدامي الذي بات يلتهم من ارواح الفلسطينيين بمثل ما يفعل الوحش الاسرائيلي، جريا في مضمار الشرق الأوسط الاميركي الصهيوني الجديد!!
خير الكلام: يقول أبو تمام:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يُعرف طيب عرف العود.
(?) كاتب مصري
|
|