عودة الوعي العربي

 رياض نعسان آغا

 الإتحاد الإماراتية 4/8/2006


كشف العدوان الإسرائيلي الأخير المستمر على لبنان عن خطورة ما حدث للوعي العربي من غيبوبة، فقد كان مثيراً ومدهشاً أن يصبح الموقف العربي من المقاومة موضع ريبة وشك ونقاش يحتدم، وكان مريعاً كذلك أن يباهي إيهود أولمرت بدعم عربي لمشروع الإبادة ضد المقاومة اللبنانية، والذي ينفذه جيش الوحشية الإسرائيلي، إذ زعم أولمرت أنه تلقى دعماً وتأييداً سياسياً عربياً، وأرجو أن يكون تصريحه مجرد نوع من الحرب النفسية كيلا يسجل التاريخ سابقة لهوان عربي معلن بعد أن سجل الكثير من المواقف السرية المخزية.

ولقد وددت أن أحسن الظن بمن وقف ضد عملية المقاومة حين أسرت جنديين بهدف تذكير العالم بأن لدى إسرائيل أكثر من عشرة آلاف أسير عربي، وقلت لعل المعارضين للعملية خافوا على المقاومة من أن تنقض عليها إسرائيل بذريعة هذه العملية فتعرضها للسحق والتدمير، ولكن الأدبيات الصحفية والمواقف الإعلامية التي رافقت هذا الحذر، كشفت عن غياب مفجع للوعي العربي، حسبنا دليلاً عليه أن أحد الصحفيين العرب لم يرضه كل ما ألحقت إسرائيل بلبنان من تدمير فكتب مقالة (هي واحدة من فيض من المقالات المشابهة) يدعو فيها إسرائيل ألا تكتفي بضرب لبنان وإبادة "حزب الله"، فهذا الحزب كما سماه هو (ذيل الأفعى) ولابد من أن يضرب رأسها الموجود (حسب الكاتب) في دمشق وفي طهران.

هذه المقالة ومثيلاتها تكشف حجم الاختراق المريع في بعض وسائل إعلامنا العربي وقسوة الاستهانة بالوجدان والناموس والقيم العربية والإسلامية، وبؤس ما وصلت إليه بعض السلطات العربية من عجز عن حماية الثوابت التي باتت مباحة؛ فالعدو يغزونا بأقلام عربية تعلن أنها ليست منا، وتعمل علانية بيننا لصالح العدو، ولا أحد يسألها أو يعترض رسمياً على خيانتها المعلنة.

ونحن ندرك أن هذه المقالات لو بلغت آلاف الصفحات فلن تترك أي أثر يذكر عند المتلقي العربي أكثر من الشعور بالاحتقار لأولئك الذين باعوا شرفهم الوطني مقابل حفنة من الدولارات. وقد كان مفجعاً أن يضرب بعض المخترقين على نغم الطائفية البغيض في هذه المرحلة الدموية ليزيدوا الأوار ويضرموا الفتنة في الشارع العربي الذي عبر عن وعي افتقده هؤلاء الكتاب الذين كشفوا أنهم مدسوسون يعملون لصالح العدو وينبغي أن يقدموا للمحاكمة حيث تقضي القوانين في كل الدول العربية بعقابهم بجرائم الخيانة العظمى.

ولئن كان بعض المثقفين العرب من المتأمركين الحالمين بالرخاء الأمريكي الذي ستجلبه لبلادنا صواريخ الولايات المتحدة، لم يخجلوا من دم أطفال قانا ومن جثث الموتى تحت الأنقاض في لبنان وقبلها في فلسطين، فإن الصمت عليهم والسماح لهم بممارسة هذه الديموقراطية المزيفة الخادعة يبدو ضعفاً غير مبرر، وحسناً فعلت المقاومة حين ألقت القبض على أمثال هؤلاء في لبنان ممن يقومون بدور الدليل للجيش الإسرائيلي ويرشدونه إلى الأهداف التي يبحث عنها.

صحيح أننا لم نفاجأ بهذا الاختراق في الإعلام العربي فقد كان يطبخ على نار هادئة منذ عقود طويلة حيث تم تأهيل جوقة المتصهينين في الإعلام العربي تحت يافطات الديموقراطية والدفاع عن الأقليات وسوى ذلك من الشعارات البراقة التي انكشف زيفها حين اختار الشعب الفلسطيني "حماس" فوقف هؤلاء الديموقراطيون ضد خيار الشعب لأنه لا يرضي الرغبة الصهيونية، وبدا واضحاً أن دفاع هؤلاء المتأمركين عن حقوق الأقليات لم يكن بهدف إنصاف المظلومين وإنما بهدف تأهيل المجتمع العربي لمزيد من التفكك تلبية للرغبة الأمريكية الإسرائيلية ببناء شرق أوسط، "كبير" مرة و"جديد" مرة أخرى، يضم دولاً طائفية وعرقية على غرار ما تهكم به أحدهم حين تحدث عن "دولة شيعستان" و"دولة سنيستان" على غرار كردستان الكبرى، فضلاً عن دول للمسيحيين بحسب مذاهبهم وأخرى للدروز وغير ذلك مما تشتهي كونداليزا أن تقيمه في الشرق الأوسط المفكك لصالح إسرائيل التي يخطط الأمريكان أن يجعلوها دولة كبرى بين مجموعات من الدول الصغيرة الضعيفة المتناحرة، غير مدركين أن ما يخططون له هو نوع من الأوهام لا يمكن أن يتحقق، لا سيما بعد أن بدأت الصهيونية تلفظ أنفاسها وتنكفىء خلف جدار الخوف على مستقبلها، لأن الوعي العربي الذي رسخته المقاومة في نفوس الشباب العربي هو الذي سيرسم خريطة الشرق الأوسط العربي الجديد الذي تنكمش فيه إسرائيل خلف جدارها وترتد عنه السياسة الأمريكية التي تعمقت كراهية الأجيال الشابة لها بعد سيل جرائمها في العراق، وبعد انفضاح أكاذيب دعواتها الديمقراطية في فلسطين، وبعد التهتك الأخلاقي المفجع الذي وصلت إليه في إصرارها على استمرار إسرائيل في السفك والقتل والتدمير في لبنان، وفي سيطرتها المريعة على القرار الدولي في مجلس الأمن... الأمر الذي يثير حفيظة دول كبرى باتت تشمئز من هذا الفلتان الأخلاقي في الموقف الدولي الذي ما يزال مرتبكاً عاجزاً عن اتخاذ موقف حازم من جرائم تقشعر لها الأبدان مثل جريمة قانا الثانية.

إن ما ارتكبته إسرائيل في لبنان من جرائم يصمت عنها المجتمع الدولي هو وصمة عار على جبين الإنسانية التي تقودها اليوم الولايات المتحدة التي ما انفكت تطالب دول العالم باحترام حقوق الطفل، وهي وحدها التي تقتل الأطفال بأسلحة أمريكية الصنع يسفك دم الطفولة بها جنودها الإسرائيليون الذين ماتت ضمائرهم، وهم يحاولون إيهام العالم بأنهم أبرياء يدافعون عن أنفسهم ضد صواريخ الكاتيوشا التي تقصفهم بها المقاومة! وإذا كانوا يتجاهلون حقيقة أنهم هم المعتدون الذين احتلوا جنوب لبنان وأسروا من العرب الآلاف، فكيف يتجاهل ذلك قادة العالم الذين يعرفون جيداً أن الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على لبنان، هي استمرار للعدوان الإسرائيلي على الأمة العربية كلها منذ أن أقيمت إسرائيل عنوة على الأرض العربية ومنذ أن شرد شعب فلسطين ليحل محله شعب آخر لا صلة له بهذه الأرض؟! لقد قبلت الأمة العربية بالأمر الواقع، وقدمت فرصة تاريخية لإنهاء الصراع عبر تسوية واقعية على مبادئ تضمن إمكانية التعايش، لكن إسرائيل تريد من العرب استسلاماً ولا تريد معهم سلاماً، وهذا ما لن يتحقق لإسرائيل، بل إنها ستندم كثيراً لتجاهلها المتغطرس لمبادرة السلام العربية، لأن الأجيال القادمة التي تزداد اليوم كراهية لإسرائيل، وهي ترى جرائمها القذرة، لن تقبل التعايش مع السفاحين والمجرمين.

ويبقى السؤال على الصعيد العربي، أترانا نحتاج إلى أن تقوم إسرائيل بمزيد من القتل والتدمير في عواصمنا العربية، واحدة تلو أخرى، كي نقنع بعض مثقفينا العرب بأن عدوهم ليس "حزب الله" المقاوم، وليس "حماس" الصامدة أمام أشرس نوع من أنواع الاحتلال؟!

إنني أرجو أن يستعيد الكتاب المتوهمون الحالمون بـ"شرق أوسط جديد" ترسمه رايس، وعيهم الوطني، فهي لا تعمل لصالحهم أو لصالح الشعب الأمريكي الذي لا شأن له ببلادنا كي يرسم خارطتها، وإنما تعمل لصالح إسرائيل فقط. وهي وأمثالها من قادة الغرب سينساهم التاريخ وسيلفظهم، كما لفظ الذين كانوا قبلهم ممن قتلوا وسفكوا ودمروا ولكنهم لم يحققوا شيئاً من أهدافهم، وحسبنا شارون الذي ارتكب أقذر الجرائم في مطلع القرن العشرين حيث بوسعه اليوم أن يموت كمداً وهو يرى "حماس" تصل إلى السلطة في فلسطين رغم كل ما ارتكب من جرائم بهدف إبادتها، وحسبنا كذلك شيمون بيريز الذي ظن حين ارتكب مجزرة قانا الأولى أنه قضى على المقاومة اللبنانية بضربات ماحقة، ولكن عناقيد غضبه تحشرجت في حلقه وهو يرى المقاومة تشتد وتكبر وستزيدها مجزرة قانا الثانية إصراراً وتصميماً على تحقيق النصر، وإنهاء لهذا الصلف الإسرائيلي الذي تشمئز منه نفوس البشرية كلها. وسيموت الخونة بغيظهم وحسبهم أنهم باتوا يسلمون مرغمين بانتصار المقاومة.