حلمنا الديمقراطي مها جديد
في الوقت الذي تزداد فيه الكتب والدراسات التي تندد بمثالب الديمقراطية التمثيلية في الغرب وتعلو أصوات المفكرين الذين يعتبرون أن هذا النموذج الديمقراطي قد بلغ نهايته وأن الوقت قد حان لمعالجة قصوره بأشكال أكثر تشاركية، أتحفتنا اللجنة الحزبية في مجلس الشعب بما يسمى (مسودة قانون الأحزاب). أما وكالة سانا، فقد أرفقت الخبر بالتنويه بأن اللجنة قد اطلعت على تجارب البلدان المجاورة وخاصة اليمن (السعيد) واستفادت من خبراتها في هذا المجال!!! وهنا أحب أن أقدم إضاءة على مفهوم الديمقراطية التشاركية Participatory Democracy الذي أصبح نموذجاً مطبقاً في العديد من الأماكن، وينادي به العديد من المفكرين كنموذج لديمقراطية بديلة أكثر جذرية وعدالة. وهو كمفهوم ظهر في ستينات القرن الماضي كشعار لحركة الشباب من اليسار الجديد التي انتشرت بين صفوف الطلاب والطبقة العاملة وكان هدفها مشاركة المواطن الجوهرية في الحكومة وقراراتها، وقد انتشرت بشكل واسع مما جعل بعض الحكومات تضع برامج تجسد المشاركة الموسعة للمواطنين. وكمثال عليها، ظهر في الولايات المتحدة عام 1964 برنامجCommunity Action Program الذي دعا إلى أكبر قدر من المشاركة الملموسة للمواطنينـ وفيه يكون الكلام الفصل للقرارات المصيرية في مدينةٍ ما للمجالس المحلية فيها. وفي فرنسا، استطاعت اللجان الاستشارية العامة واستطلاعات الرأي إيقاف برامج المزروعات المعدلة جينياً. أما (بورتو أليجري)، المدينة البرازيلية الصغيرة، فهي تقدم أنجح تطبيق لهذا النوع من الديمقراطية. فقد شهدت منذ عام 1983 قيام اتحاد جمعيات أحياء (بورتو أليجري) الذي جمع حركات المدينة التي قطعت مع الجمعيات التقليدية القائمة على أساس القرابة والزبائن، ومكّن هذا الاتحاد المدينة من تجاوز الأزمة المالية الحادة التي عانت منها مختلف بلديات المدن البرازيلية الأخرى عام 1988 بسبب إرسائه لبنية اجتماعية اقتصادية سليمة أكثر من غيرها في بقية المدن. تعتمد هذه المدينة على الديمقراطية التشاركية في إدارتها، وهي ممارسة ديمقراطية جذرية تعتمد على نوع من مجالس الأحياء وتشكل نوعاً مختلفاً من الديمقراطية المباشرة، إذ يتم توزيع جديد للسلطات لايكون المواطنون ممثلين فيه بمن ينوب عنهم وإنما يدلون بآرائهم مباشرة في الأمور التي تخص مدينتهم، كما يساهم السكان في إعداد ميزانية البلدية مباشرة والإشراف على إنفاقها، مما جعلها مثلاً احتذت به العديد من مدن أميركا اللاتينية، وأطلق عليها بحق اسم (عاصمة الديمقراطية)، واختارتها حركات العولمة البديلة لتكون مقراً لانعقاد المنتدى الاجتماعي العالمي. أما في إيطاليا، وفي حديث لإحدى ناشطات الحركة المناهضة للعولمة في برنامج وثائقي عرضته قناة الجزيرة، فتشرح لنا اعتماد العديد من الأحياء لفكرة الإدارة المشتركة للميزانية بعد نجاح تطبيقها في (بورتو أليجري)، وكيف يتمكن المواطنون من تقرير ميزانية الحي كالمرافق العامة والحدائق والأنشطة الثقافية والرياضية والشبابية، وكيف يستطيعون أن يقروا ما نسبته 20 بالمائة من أوجه إنفاق ميزانية الحي، مع شفافية كاملة لإدارتها وضمان أن الأموال تنفق لتلبية احتياجات المواطنين وبناء على اختياراتهم مباشرة، ولا يقررها أو يفرضها عليهم القائمون على السلطة. وإذا كنا نورد هذا النمط المختلف والفعال من الديمقراطية، فلأننا نؤمن بضرورة النضال لخلق خيارنا الديمقراطي العلماني الجذري الذي يضمن حقوق المواطن السياسية والاجتماعية والاقتصادية، رافضين لما يسّوق في المنطقة من ديمقراطية طائفية يتم تبنيها الآن في العراق وترسيخها في لبنان، وتسويقها من بعض النخب هنا، ومختلف عما (تبشّر به) مسودة قانون الأحزاب التي إذا أقرت بشكلها الحالي فستبقينا خارج التاريخ وتبقي طاقات السوريين أسيرة الإحباط والتهميش والسجون.
|