لماذا تئن النواعير؟

 معقل زهور عدي
 


 


 

بالمقارنة مع دمشق وحمص وربما حلب، مازالت حماة أقل تلوثاً، لكن ذلك لا يعني الشيء الكثير.


 

فنهر العاصي لم يعد كما كان في الستينيات، حين كنا نذهب صغاراً لشاطئ النهر في (البشريات) فنشاهد الحصى في قاع النهر تحت المياه العذبة الرقيقة. كانت المياه صافية كمرآة تتلألأ تحت أشعة الشمس، أما الآن فالمياه داكنة بفعل التلوث الشديد. والحياة في النهر تكاد تكون معدومة، أما الضفاف فتمتلئ بالفضلات التي ترميها المقاهي والمطاعم بحرية. وفي وسط المدينة (ساحة العاصي) قرب جسر المراكب، تفوح من النهر روائح لا تطاق.


 

لقد تبدلت علاقة المدينة بالنهر. كان النهر رئة المدينة وشريانها الدافق بالحياة، فأصبح مكباً للنفايات ومجروراً مكشوفاً. وحين تفتقد حماة العاصي، تصبح النواعير شكلاً بغير معنى، رمزاً يحاول عبثا استعادة صورة حية لنهر ميت.


 

لا تقتصر كارثة التلوث على تدمير علاقة حماة بالعاصي، ولكن تمتد إلى أبعاد صحية لا حدود لها، فمعظم خضراوات حماة تأتي من البساتين القريبة من النهر التي تسقى من مياهه، وحتى هذه اللحظة لا توجد دراسة منشورة حول انتقال التلوث العضوي والكيميائي من مياه النهر لتلك الخضراوات، والله وحده يعرف ما في داخلها من مواد وعناصر مؤذية للصحة وحاملة للأمراض. في إحدى ضواحي حماة ينشر معمل الزيت دخاناً يحمل معه غباراً من نواتج عصر البذور، وفضلاً عن الرائحة القوية، يترك ذلك الغبار كل يوم طبقة فوق النوافذ والشرفات، وهناك شبهات قوية حول علاقته بانتشار الأمراض التنفسية في المنطقة السكنية المجاورة.


 

ليس الحال أفضل من ذلك بالنسبة لمعمل الاسمنت الذي تعاني من دخانه قرية كفربهم القريبة من حماة الأمرين. أما المقالع ومعامل الرخام، فتنتشر بين القرى والمزارع بصورة اعتيادية. يزداد كل يوم عدد المركبات في شوارع حماة الضيقة، وقد قفز عدد سيارات التكسي من بضع مئات إلى أكثر من سبعة آلاف خلال ثلاث أو أربع سنوات. فإذا أضفنا لهذا الأسطول عدداً غير محدد من الشاحنات والسيارات الخاصة فالنتيجة، أن أية شرفة سكنية قريبة من أحد الطرقات ستتلون بالغبار الأسود في اليوم التالي لتنظيفها. فأي هواء نستنشق؟


 

يجري الحديث في صالونات حماة همساً عن ظاهرة اتساع غير طبيعي للإصابة بالسرطانات، لكن يتساءل المرء: من سيهتم بدراسة هذه الظاهرة ومن يبالي؟


 

كل ذلك لا يمثل سوى جانب من حجم كارثة التلوث التي نعيشها، وقد أصبحت بالنسبة لنا أمراً اعتيادياً.


 

على مقربة من مجرى النهر الميت، يقام مهرجان الربيع، لكن ذلك لا يشبه سوى عرس يقام في مقبرة، حيث لا أحد يلتفت إلى الميت الذي يصرخ في القبر.