فكر العجز وفعل المقاومة!
محمود احمد
لا أحسب أن أحداً قد فوجئ بعدم الخروج بأي قرار، أو حتى مجرد صدور بيان، عن اجتماع مجلس الأمن الدولي الذي انعقد خلال شهر أيلول (سبتمبر)، بناء على طلب الدول العربية، للنظر في <إحياء عملية السلام>للشرق الأوسط. وربما لم يثر الأمر ما هو أكثر من اللامبالاة لدى الشارع العربي، إزاء هذه الخطوة التي لا أعتقد أنه قد تابعها إلا القليل من المراقبين والمهتمين، وبالتالي فإنها جرت وانتهت دون أن تحدث أي رد فعل حقيقي على أي مستوى.
والأرجح، أن الكثيرين اعتبروا أن هذا التحرك العربي باتجاه مجلس الأمن كان في حقيقته تعبيرا عن حالة العجز و<قلة الحيلة> التي سقط في هوتها العمل العربي منذ أمد غير قصير. وربما رأى آخرون أنه يأتي متمشياً مع مسيرة طويلة امتدت لأكثر من ثلاثين سنة من تسليم القياد العربي والإرادة العربية إلى القوى الدولية، تطبيقا لتلك المقولة المشهورة والمشؤومة التي أطلقها الرئيس المصري السابق أنور السادات بأن تسعة وتسعين في المئة من أوراق <اللعبة>في الشرق الأوسط هي في أيدي الولايات المتحدة الأميركية!
في المحصلة، كان هذا التحرك العربي، والنتيجة <الطبيعية>التي انتهى إليها، هو آخر تجليَات فكر العجز الذي وقع العمل العربي أسيرا له والذي انكشف خصوصا في الآونة الأخيرة مع بروز فكر وفعل المقاومة الذي فرض نفسه بجدارة، وأثبت قدرته بإحباط الهجمة الإسرائيلية الوحشية على لبنان.
ربما كان التصريح الذي صدر قبل بضعة أسابيع عن الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، والذي قال فيه إن عملية السلام في الشرق الأوسط قد ماتت، هو الذي حرك في الأساس فكرة اللجوء إلى مجلس الأمن من جديد، بعد أن <داخ>العرب في دهاليز الديبلوماسية الدولية التي استدرجتهم إليها إسرائيل على مدى عقود عديدة ليجدوا بعدها أنها لم توصلهم إلا للفراغ. وعلى الرغم من أن فكرة العودة إلى مجلس الأمن قد قوبلت بفتور واستخفاف من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أن الجانب العربي أبدى تصميماً على المضي في تنفيذها، ودون إعداد كاف على ما يبدو، الأمر الذي كان لا بد معه من توقع عدم الخروج بنتيجة من الاجتماع الذي عقد يوم 22 أيلول (سبتمبر). وعلى أي حال، فإنه كان مقدَرا لهذا التحرك العربي <اليائس>ألا يخرج بأكثر من تلمس وجود <نيَة سياسية لإحياء العملية السياسية>وفقا للتعبير الذي استخدمه الأمين العام للجامعة العربية في مؤتمر صحافي عقب الاجتماع ولا سيما أن مجلس الأمن ذاته يمر منذ فترة، كما نعرف ونشاهد، بحالة انصياع للإرادة الأميركية لم يسبق لها مثيل... ورغم وجود إجماع دولي، تبلور بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، على أن الشرق الأوسط سيظل عرضة للانفجار إذا تأخرت تسوية الصراع العربي الإسرائيلي. بل إن الأمين العام عمرو موسى عاد ليوضح، فيما بعد (في مقابلة مع صحيفة <الأهرام>نشرت في 10/2) أن الذهاب إلى مجلس الأمن لم يكن هدفه العودة بحل خلال 24 ساعة، وإنما كان الأهم هو <الرسالة السياسية>التي انطوى عليها هذا التحرك. وأشار عمرو موسى في هذه المقابلة إلى ما وصفه بالغضب العارم الذي اجتاح العالم العربي نتيجة الممارسات الإسرائيلية وخصوصا بعد الحرب على لبنان وما تأكد من أن <الحبل قد ترك للسياسة الإسرائيلية على الغارب وتعطلت كل أحكام القانون الدولي بالنسبة إليها>... ومن هنا جاء قرار إعادة طرح القضية برمتها على مجلس الأمن.
ومع ذلك، فإن التحرك العربي باتجاه مجلس الأمن بدا وكأنه جاء لمجرد أن يعبر عن تلك الحالة العربية من الاحتجاج أو حتى الغضب من التعطيل المتعمد من جانب إسرائيل والولايات المتحدة لكل الجهود التي بذلت، وخصوصا منذ مؤتمر مدريد قبل ما يقرب من خمسة عشر عاما، لمحاولة التوصل إلى تسوية للصراع. ويبدو أن الجانب العربي لم يعد يجد مفرا من الاعتراف الآن وبعد كل المحاولات العبثية في إطار ما سمي بعملية السلام بأنه ينبغي البحث عن بديل لهذه العملية التي أعلن عمرو موسى موتها بينما يرى الديبلوماسي المصري المخضرم والقاضي بمحكمة العدل الدولية الدكتور نبيل العربي (في مقال بصحيفة <الأهرام>في 24/9) أنها ولدت ميتة أصلاً. فما يطلق عليه عملية السلام، كان اختراعاً إسرائيلياً للالتفاف حول التنفيذ الفوري للقرارات الدولية المتعلقة بالصراع، وكانت الحجة التي ساقتها إسرائيل، وانخدع بها المجتمع الدولي بما في ذلك الدول العربية المعنية، هي أنه من الضروري توفر قدر من الثقة بين الأطراف قبل الإقدام على الانسحاب من الأراضي المحتلة واتخاذ باقي الخطوات المطلوبة لإحلال السلام. وبمرور الوقت، تاهت القرارات الدولية وتداخلت حتى ضلت عملية السلام طريقها، ولم يتحقق السلام بالطبع، ووجد المجتمع الدولي أن عليه مواجهة مجموعة من المسميات والإجراءات المتداخلة والمتشابكة والتي شبهها الدكتور العربي بعقدة الحبال التي واجهت الإسكندر الأكبرعند غزوه لآسيا والتي يطلق عليها <عقدة غورديان Gordian knot>وتقول الأساطير إن الإسكندر لم يجد وسيلة للتغلب على طلاسمها إلا بأن يقطعها بسيفه.
وهكذا سقطت المنطقة في متاهة عملية السلام، ولم يكن في مقدور الأطراف العربية، لسوء الحظ، إلا أن تدور في دوامتها عاما وراء عام كما لو كانت <منوَمة>أو مغمضة الأعين، إلى أن انتهى بها الأمر أن سقطت بدورها في هوة العجز، فكان جل ما استطاعت القيام به بعد سنوات طويلة ومضنية هو أن تطرح مبادرة للسلام في قمة بيروت عام ,2002 فلم ترض بها إسرائيل!
ربما يكون علينا أن نقرَ، أيضا، بأن العجز العربي الذي نتحدث عنه إنما يعود أساسا، ولأسباب عديدة، إلى انعدام القدرة وغالباً عدم وجود الرغبة في التصدي بأي قدر لمشاريع الهيمنة التي تفرض على المنطقة، وخصوصاً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وتدريجياً، كان لا بد أن ينبت ثم يترعرع <فكر العجز>الذي ينطلق أساسا من استبعاد أي إمكانية للتصدي أو المقاومة، ومن ثم القبول باحتلال القوى الخارجية للإرادة العربية والتسليم بما تمليه هذه القوى من سياسات وتوجهات بما في ذلك، طبعا، ما يتعلق منها بعملية السلام. وربما يجوز أن نتوقف هنا لبرهة، لنسجل أن هذا القبول والتسليم قد خلق حتى ولو بدون وعي حالة ذهنية ونفسية وسياسية ترفض فكرة المقاومة وتستغربها، الأمر الذي أدى تلقائياً إلى تلك المواقف التي سارع البعض إلى إعلانها عند بداية اندلاع الحرب على لبنان في تموز (يوليو) الماضي. ولا يقتصر هذا الرفض على فعل المقاومة الذي يتصدى بكل أنواع السلاح المتاح للاحتلال والعدوان السافر، وإنما هو يمتد إلى أي مقاومة لاحتلال الإرادة الذي صار للأسف واقعاً مزمناً لا شفاء منه على ما يبدو إلا بوقوع تغييرات جذرية في معظم أقطار العرب!
على أن النتيجة الأخطر لهذه الحالة الرافضة لفكر وفعل المقاومة، هي بالتأكيد ما تسببت به من غياب الحس بمقتضيات الأمن القومي العربي ومتطلباته، ولو في حدوده الدنيا. ومن يتابع ردود الأفعال العربية على ما يجري في العراق وفلسطين والسودان، والمحنة التي تعرض لها لبنان مؤخراً، لا بد وأن يتملكه العجب من المواقف العربية المتبلدة تجاه القضايا التي تمس وتهدد الأمن القومي العربي والتي نجمت أساسا عن انزلاق المنطقة بأسرها وسقوطها في قبضة النفوذ الغربي. ذلك أنه لا توجد اليوم مشكلة في أي مكان من العالم العربي الواسع، صغيرة أو كبيرة، إلا وأصبح للتحالف الأميركي الأوروبي فيها الكلمة العليا، بينما تراجع الدور العربي إما إلى موقع المتلقي أو المجبر على القبول بما يملى عليه... أو إلى موقع المتفرج في أفضل الأحوال. وفي الوقت ذاته، وكما يقول الكاتب السياسي المصري سلامة أحمد سلامة (في مقال له نشر في 21/9)، فإن افتقار الأطراف العربية إلى المقومات الذاتية والقدرة على أخذ زمام المبادأة يؤدي بالضرورة إلى خلق حالة من الفراغ السياسي التي تغري بالتدخل. ولم يكن الاعتداء الإسرائيلي الأخير على لبنان إلا نموذجا لما آلت إليه الأوضاع في المنطقة، حيث تحدد أطراف خارجية أخرى متى وكيف يتم التدخل... ويتم الاتفاق على ذلك في باريس أو واشنطن أوبروكسل وليس في الجامعة العربية أو الرياض أو القاهرة!
ولعله يجوز التنبيه، فضلا عن ذلك، إلى ذلك النزوع إلى <الانكفاء>الذي ما فتئ يشتد ويزداد حدة لدى معظم إن لم يكن كل الأقطار العربية. فمن اليسير على أي مراقب أن يلاحظ أن هذا النزوع أو الميل نحو الانكفاء لا يقتصر على البلدان التي تثقلها المشاكل أو التي تواجه احتلالا أوحروبا داخلية، كالعراق وفلسطين والسودان، وإنما هو يمتد ليشمل أقطارا أخرى في المغرب العربي والخليج. وحتى في بلد كمصر التي كان لها دائما دور فاعل على الساحة العربية وفي قيادة العمل العربي المشترك، كان من اللافت أن مناقشات مؤتمر الحزب الوطني الحاكم الذي انعقد مؤخرا لم تتطرق إلى أية قضية خارجية بما في ذلك ما يتصل أو يهدد مباشرة الأمن القومي العربي... أو حتى المصري مثل الوضع الخطير في السودان. وحتى أحزاب المعارضة المصرية تبدو وكأنها قد وقعت هى الأخرى أسيرة لنزعة الانكفاء تلك، فنجد أن طروحاتها وسجالاتها وأنشطتها السياسية قد اقتصرت، وبشكل كامل تقريباً، على قضايا الداخل (كالإصلاحات الدستورية والاقتصادية ومشاكل التعليم والبطالة، إلخ...) والتي هي ، على أهميتها، لا تبرر بأي حال إهمال أو إغفال قضايا أخرى يبلغ بعضها من الخطورة ما يمكن أن يشكل تهديداً حقيقياً لأمن مصر ومستقبلها!
ويكتمل هذا الواقع البائس من العجز العربي باستفحال الظاهرة التي أطلق عليها عمرو موسى يوما وصف <الهرولة>العربية والمتمثلة في الاندفاع، من دون أي مبرر واضح، على الطريق باتجاه إقامة علاقات مع إسرائيل. ذلك أنه إذا كانت هناك دول عربية قد اضطرت، بسبب الحروب واحتلال الأرض والاشتباك مع العدو، إلى الدخول في عمليات تفاوض والتورط في عقد اتفاقات أيا كان الاختلاف حولها فما عساه يكون العذر لبلدان أخرى، في المغرب العربي أو في الخليج لإقامة اتصالات سرية أو علنية لا فائدة منها سوى مساعدة إسرائيل على كسر طوق العزلة والمقاطعة الذي لم تترك حالة الضعف والعجز في أيدي العرب من سلاح غيره؟! والواقع أن المتابع لهذه الظاهرة لا يمكنه أن يتجاهل ما يتردد عن أن هناك <مصالح>تتحقق في دنيا المال والأعمال (أو خسائر يراد تجنبها) لشخصيات نافذة، خصوصا في أقطار الثروات المتضخمة، وهي مصالح تتجمع خيوطها في أيدي المسؤولين عن المؤسسات المالية الكبرى في العالم والواقعين بدورهم في قبضة النفوذ اليهودي والإسرائيلي.
قد تكون هناك بالفعل أسباب معقولة لأن يتفاءل البعض بانبعاث <فكر المقاومة>، ليكون هو العلاج الناجع وربما الوحيد المتبقي للتصدي ل<فكر العجز> الذي يكبل الأمة منذ عقود طويلة. ولعل ما يشجع على التشبث بهذا التفاؤل، أن الانبعاث الذي نتحدث عنه لم يقتصر على <فعل المقاومة>المتمثل بالتصدي البطولي للهجمة الإسرائيلية الوحشية على لبنان، وإنما عبرت عنه أيضا في الوقت نفسه تلك الروح التي سرت في الجماهير العربية تأييداً للمقاومين بمجرد بدء معركة التصدي للعدوان. فإذا كان هذا التأييد قد جاء واضحاً وقاطعاً ولا لبس فيه، فإنه قد فتح الباب واسعاً أمام معركة أخرى لا بد منها: معركة التصدي للقضاء على <فكر العجز>وإسقاطه.
(?) كاتب مصري