انتفاضة سوريا في نظر لبنان ،أيّ لبنان؟

 

 

 

 

اعتصام لأطفال لبنانيين لاستنكار مقتل الطفل السوري حمزة الخطيب (جمال السعيدي ــ رويترز


 

 

أسعد أبو خليل

تقابل حركة الاحتجاجات في سوريا جوقات الدعاية السياسيّة من فريقيْن يتعاطيان مع سوريا في سياق ثقافة عنصريّة ضد الشعب السوري برمّته. فريق 14 آذار يتصنّع التعاطف مع شعب عمد إلى التحريض العنصري ضدّه على مدى أعوام. وفريق 8 آذار يريدنا أن نصدّق أن تأييده للانتفاضات العربيّة باستثناء سوريا هو موقف منسجم، وأنّ ما يجري في سوريا هو نتاج مؤامرة فقط. لكنّ للتعاطي اللبناني السياسي مع حركة الانتفاضة الشعبيّة في سوريا تاريخاً طويلاً من الأزمات والتشعّبات.

إنّ الانقسام اللبناني السياسي الشهير يجد تعبيره في كلّ مفصل وفي كلّ حدث، قريباً كان أو بعيداً. والانتفاضة السوريّة جاءت لتعمّق الانشطار اللبناني، ولتظهر مدى اختلاف الرؤى بين الحركات السياسيّة، وبين اللبنانيّين واللبنانيّات. فريق يتصنّع بأبشع الطرق والوسائل والأنماط التعاطف مع الشعب السوري، وآخر يريد أن ينكر ما تراه العيْن المُجرّدة. كيف نصدّق أنّ العنصري ضد «السوري» يأبه لمصير الشعب السوري، وكيف تنكر ما تستطيع أن تراه، وكيف تنسى دماءً سوريّة مسفوكة في لبنان؟
لا شك أنّ الأزمة بين لبنان وسوريا لها أكثر من جانب ومن بعد. هناك الجانب الرسمي بين الدولتين وطوائفهما وعصبيّاتهما وشعابهما. وهناك الجانب الشعبي المرتبط بعلاقة بين الشعبين، وهناك جانب العلاقة بين النظام السوري من جهة والشعب اللبناني في سنوات التدخّل السوري العسكري في لبنان. ولكلّ جانب في العلاقة ـــــ أو العلاقات المذكورة ـــــ أحكام وسمات وطبائع، وهي تتأثّر بعضها ببعض، كما أنّها تتأثّر بحالة اللحظة السياسيّة الراهنة.
طبعاً، البداية تتعلّق بتكوين الكيان اللبناني ودوره في المنطقة العربيّة، نصيراً إلى جانب إسرائيل في تحالف الشوفينيّات الطائفيّة والقبليّة (حتى لا ننسى المملكة الهاشميّة). لم يرتح الكيان اللبناني في علاقاته العربيّة. على العكس، زادها توتّراً. كان دوماً يزعم أنّه مُناصر للقضيّة العربيّة (بشكلها الرسمي الهزيل، مثلما يقول فريق الحريري اليوم إنّه يؤيّد الإجماع العربي، فيما هو يرمي إلى الإشادة ضمناً بالتحالف السعودي ـــــ الإسرائيلي) مع أنّه كان في الحقيقة منذ ما قبل الاستقلال، حتى ما بعد الحرب الأهليّة مُناصراً للمحور الغربي ـــــ الإسرائيلي. لهذا، فإنّ لبنان، بالرغم من كلّ مزاعم بيار الجميّل ومحسن إبراهيم، لم يتجشّم عناء تحمّل مسؤوليّات (لا أوزار) القضيّة الفلسطينيّة ومترتّبات الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. والجيوش الأردنيّة والمصريّة والسوريّة خسرت الآلاف من خيرة جنودها وضبّاطها في حروب أدّت إلى أشنع الهزائم بسبب تقاعس وتقصير، وفي كثير من الحالات، الارتهان الخارجي للعدوّ (مثل حالتيْ نظام السادات ونظام الهاشميّين). أما الجيش اللبناني، فقد بدأ بخوض مباريات كرة القدم مع جنود العدوّ على الحدود اللبنانيّة ـــــ الفلسطينيّة ابتداءً من عام 1949 (أوردت جريدة «بالستيْن بوست» في عدد 8 حزيران 1949 خبر مباراة كرة قدم ودّيّة بين جنود لبنانيّين وجنود إسرائيليّين ـــــ سمّها هذه عقيدة فؤاد شهاب العسكريّة). وعقيدة فؤاد شهاب تلك تضمّنت، بالإضافة إلى عبادة الرجل الأوروبي الذي اتخذه مستشاره في كلّ ما يتعلّق بلبنان وشؤونه الداخليّة والخارجيّة، النأي بلبنان عن كلّ قضايا الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، وجعله المُتفرِّج الطائفي على تطوّرات الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي (لو تم تسريب وثائق «ويكيليكس» لحقبة ما قبل الحرب الأهليّة لتبيّن لشعب مسخ الوطن أنّ مسيرة إلياس المرّ ووليد جنبلاط وبطرس حرب في تعاطفهم مع العدوّ أثناء عدوانه بدأت قبل استقلال لبنان. لم يتفرّد إميل إدّه وألفرد نقّاش والمطران أغناطيوس مبارك بتأييد الصهيونيّة جهاراً في محافل دوليّة، في حالة الأوّل والثالث). والعلاقة بين لبنان وسوريا على مستوى الدولتيْن شابها منذ الاستقلال الشك والنفاق وتبييت العداء. النظام في سوريا منذ وصول البعث عمل على التأثير في النظام بلبنان وعلى رعاية مجموعات فلسطينيّة ولبنانيّة لكسب النفوذ (والنيّة على عهد صلاح جديد كانت مرتبطة بسياسة النظام نحو فلسطين، فيما تحوّلت النيّة في عهد حافظ الأسد إلى التأثير على الحكومة اللبنانيّة ومقارعة البعث العراقي ـــــ أي لم تكن ترمي إطلاقاً إلى تحرير فلسطين).
لكن الدولة اللبنانيّة لم تقصّر هي الأخرى. كانت تحتضن وتعزّز المحاولات الانقلابيّة ضد النظام في سوريا، بالتعاون مع الأجهزة الاستخباريّة الغربيّة والإسرائيليّة (الدولة اللبنانيّة قبل الحرب الأهليّة كانت ـــــ في أجهزتها العسكريّة والاستخباريّة ـــــ تتعامل مع إسرائيل مثلما تعامل معها نظام حسني مبارك على أنّها حليف. ينسى البعض أنّ إسرائيل جنّدت سعد حدّاد، وتعرّفت على أنطوان لحد في أوائل السبعينيات). يمكن القول إنّ كلّ المحاولات الانقلابيّة، الناجحة منها والفاشلة، ضد النظام القائم في سوريا حيكت من لبنان. ربما ظنّ لبنان أنّه يتذاكى، وأنّه يستطيع أن يهزّ ثقة النظام السوري بنفسه. لكن الأرجح أنّ لبنان ما كان يفعل ذلك إلا تلبية لرغبات أوصيائه الغربيّين الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة لم يتدخّلوا فيها. أي أنّ الطرفيْن لم يكونا يحترمان سيادة كلا البلديْن (طبعاً، كلام السيادة بحدِّ ذاته ممجوج لأنّ تحرير فلسطين والثورات تتطلّب خرق سيادة كلّ الدول، وخصوصاً دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين الغالية، لكن من خصوصيّات أنظمة القطريّة العربيّة ـــــ بما فيها لبنان سوريا ـــــ الاستفاضة في كلام السيادة من باب مضايقة الشعب الفلسطيني وثورته، ومن أجل تدعيم أنظمة فاقدة للشرعيّة).
وصعدت العلاقات بين سوريا ولبنان إلى مستوى الدولة، أو قل إنّها تحسّنت بعض الشيء في العلاقة الشخصيّة بين رئيسيْن. علاقات سليمان فرنجيّة الجدّ لم تكن حسنة على مرّ حكمه مع النظام السوري. فقد أدّت حرب الجيش اللبناني على المخيّمات الفلسطينيّة في 1973 (وقد صاحبت هذه الحرب، التي أُريد لها أن تقلّد حرب الجيش الهاشمي في الأردن ومجازره، هزائم شنيعة تلقّاها الجيش اللبناني على أيدي ثوّار فلسطين في لبنان) إلى إغلاق الحدود بين البلديْن، إلا أنّ تدخّل ريمون إدّه مع حافظ الأسد شخصيّاً، أدّى إلى إعادة فتح الحدود. لم تكن العلاقة بين دولتيْن فاسدتيْن غير ديموقراطيتيْن علاقة صحيّة: كانت تشوبها، من دون استثناءات تُذكر، شكوك وتآمر وتحريض وتدخّلات من الجانبيْن. النظام السوري لجأ إلى منظمة «الصاعقة» (السيّئة الذكر في تاريخ الحرب الأهليّة اللبنانيّة) ليفرض نفوذه على الساحتيْن اللبنانيّة والفلسطينيّة. العلاقة بين سليمان فرنجيّة وسوريا توثّقت فقط بعدما حزم النظام السوري أمره ليتدخّل عسكريّاً عام 1976 كي يمنع بالقوّة انتصاراً محتّماً ووشيكاً لفريق الحركة الوطنيّة اللبنانيّة ومنظمة التحرير الفلسطينيّة. استمرّ شهر العسل بين النظام السوري وسليمان فرنجيّة حتى وفاة الأخير (مع أنّ خلافاً نشأ بين الطرفيْن في اجتماعات جنيف ولوزان، حول صلاحيّات رئيس الجمهوريّة).
أما في حقبة ما بعد الطائف، فقد توطّدت العلاقة في الواقع (أكثر مما توطّدت في الاتفاقات التي انكشف بطلانها بمجرّد خروج الجيش السوري من لبنان). كان النظام السوري يتعامل مع أقطاب الطوائف كلّ على حدة، وكانت الأطراف تحلّ صراعاتها (الصغيرة والكبيرة) عبر المرور في سوريا ـــــ وأفرط رفيق الحريري أكثر من غيره في الاستعانة بالنظام السوري لحلّ كل شاردة وواردة، ولتدعيم مواقعه وتضخيم منافعه، وخصوصاً أنّه كان قد طلب من حافظ الأسد، صلاحيّات استثنائيّة بمجرّد أن تبوّأ منصب رئاسة الحكومة.
أما العلاقة بين الشعبيْن فلها شأن آخر. العلاقة بين الشعب اللبناني وأيّ من الشعوب المُجاورة (باستثناء صهاينة الكيان الذين عبّر الكثير من اللبنانيّين عن حبّهم وودّهم لهم قبل اجتياح 1982 وبعده) يجب أن تخضع للدرس، من خلال عقيدة الوطنيّة اللبنانيّة التي تعمّمت على مختلف الطوائف والأحزاب بعد الحرب الأهليّة، بعدما انحصرت العقيدة في أوساط أحزاب اليمين الطائفي في لبنان حتى عام 1975. (يتنافس أنصار كلّ الأحزاب اليوم على إعداد أطباق عملاقة من الطعام تدليلاً على عبقريّة العنصر اللبناني). وتحتوي الوطنيّة اللبنانيّة على عنصريّة أكيدة تتطلّع بإعجاب (وتقليد) إلى الرجل الأبيض، وتتطلّع باحتقار إلى العنصر العربي. وفي تراتبيّة الكراهية الغزيرة في الثقافة السياسيّة والشعبيّة اللبنانيّة، احتلّ «السوري» ـــــ والكلمة تُلفظ كما ترد على شفتي سولانج الجميّل، أي باحتقار شديد، كما أنّ المذكورة أعدّت أطباقاً محليّة بإعجاب شديد لأرييل شارون ـــــ موقعاً دونيّاً. وفي الدونيّة الاجتماعيّة عنصريّة طبقيّة: فالأكراد والشيعة والفلسطينيّون والسوريّون أمدّوا العائلات اللبنانيّة بالخادمات، ما زاد في النزعة الدونيّة ضدّهم. دخلوا من دون أن يخرجوا في أهداف الكراهية والاحتقار الشعبي.
وانعكست عقليّة التفوّق اللبناني الخياليّة (تكاد تصلح لحالة عصابيّة عياديّة خاصّة) على التعامل العنصري مع الشعب السوري. أصبح إطلاق النكتة عن السوري رياضة فولكلوريّة في مسخ الوطن. من الجانب السوري، لا شك أنّ الشعب السوري (الشعب، لا النظام، حتى لا يُساء الفهم) لم يقابل الشعب اللبناني إلا بالودّ وحسن الضيافة والكرم، وخصوصاً في الملمّات عندما تجتاح إسرائيل لبنان. (التعامل الشعبي السوري الودود مع الشعب اللبناني لا علاقة له بالفظاظة الكريهة التي تعامل من خلالها الكثير من جنود الجيش وضباطه وضباط الاستخبارات السوريّة مع الشعب اللبناني، على مرّ العقود، رغم مفتاح بيروت الذي أعطاه رفيق الحريري لغازي كنعان).
والعنصريّة اللبنانيّة تفسّر هذا التجاهل العام من 8 و14 آذار لاختفاء المئات من العمّال السوريّين في لبنان، ومقتل أو جرح المئات، منذ اغتيال رفيق الحريري. لكن المسؤوليّة الأساسيّة لقمع العمّال السوريّين وقتلهم وخطفهم تقع على الكاهل الرسمي لحركة 14 آذار (المتحالفة مع إسرائيل ـــــ لا تنفع التقيّة بعد «ويكيليكس») التي ذهبت بعيداً في إعلامها الرسمي في التحريض العنصري على كلّ الشعب السوري. وتتحمّل محطتا «إل.بي.سي» و«إم.تي.في» مسؤوليّة جمّة أيضاً في هذا الصدد، إذ إنّهما حوّلتا برامجهما «الكوميديّة» إلى حفلات تحريض عنصري فاضح ضد كلّ السوريّين، مثلما خدمت جريدة «النهار» المُحتضرة عقيدة الكراهية ضد الشعبيْن السوري والفلسطيني (كانت «النهار» بإمرة جبران تويني تنشر أرقاماً خياليّة عن أعداد العمّال السوريّين من أجل تعبئة الطبقة العاملة في لبنان ضدّهم). أما على المقلب الآخر من المروحة السياسيّة اللبنانيّة، فقد أدّى تشرّب العقيدة الوطنيّة اللبنانيّة إلى تجاهل حملات العنف المنظمة والعفويّة ضد العمّال السوريّين. (تجاهلت الحكومة السوريّة هي الأخرى معاناة السوريّين في لبنان، كما أنّ عدداً لا بأس به من الكتّاب المعارضين السوريّين «الليبراليّين» ـــــ بالتعريف الوهابي ـــــ اختار التعبير عن معارضة النظام في تلك الوسائل الإعلاميّة التي امتهنت تحقير الشعب السوري، أي «النهار» و«المستقبل»).
أما تعاطي الحكومة السوريّة مع الشعب اللبناني، على مرّ الأعوام، فقد كان مُستقى من تعاطي حكومة استبداديّة مع شعب واقع تحت حكمها. الفظاظة وحتى الوحشيّة كانتا سمة من سمات تعاطي الجيش والاستخبارات السوريّة في لبنان (ما سمّاه بشّار الأسد «الأخطاء»). وعلى طريقة الحكم العثماني، فضّلت الحكومة السوريّة التعاطي عبر زعماء الطوائف، الحقيقيّين والمُختارين بعناية عبد الحليم خدّام (أليس من الهزل ربط اسم خدّام بالمعارضة السوريّة التي شكّل مع الإخوان المسلمين عنوانها السعودي؟ من دون أن يعني ذلك أنّ كل المعارضة في سوريّا هي سعوديّة سلفيّة أو خدّاميّة، كما تزعم أجهزة إعلام النظام السوري).
في هذا السياق، أتى التعاطي اللبناني مع حركة الاحتجاج في سوريا. والمُلاحظ، أنّ إعلام 14 الحريري وأتباعه اتّبع سياسة التجاهل شبه التام لمجريات الأحداث في سوريا، في الأسابيع الأولى. وهذا الإعلام يتلقّى أوامره بحذافيرها من السيّد السعودي، والأخير ارتأى الحذر والخشية في البداية (واتصل الملك السعودي ببشّار الأسد للتضامن يومها). كانت الإشارة تلك كافية كي يلتزم إعلام الحريري الصمت المطبق، والتخفيف من وطأة القمع في سوريا. وكانت «السفير» و«الأخبار» الجريدتيْن الوحيدتيْن اللتيْن أعطتا الموضوع السوري حقّه في التغطية (اتّفقت مع وجهة التغطية أم اختلفت). الصحف الحريريّة ـــــ السعوديّة كادت أن تفضّل التجاهل التام تماشياً مع المسار السعودي. ولكن الأوامر أتت هكذا فجأة، وتكثّفت التغطية وزادت حماستها بعد أسابيع. يكفي متابعة الصفحة الأولى من نشرة عائلة الحريري («المستقبل») لتلمّس التغيير. والأمر نفسه كان ملحوظاً في مضارب آل سعود في الإعلام العربي. هكذا فجأة، قرّر معلّقو أمراء آل سعود (الليبراليّو الوهابيّة ـــــ إياكم وإيّاكنّ أن تنسوا وتنسين) أنّ الحدث السوري يتفوّق على أي حدث آخر، حتى لو زلزلت أرض مكّة. ومثل محطة «الجزيرة» (وإعلام الغرب) اعتمدت التغطية على رواة (وعلى شهادة «أبو محمّد» على محطة «الجزيرة») وعلى مواقع على الإنترنت (يتعامل الإعلام العربي مع الإنترنت كأنّه موقع واحد لا غير، وذو انسجام صلب في الصدقيّة).
طبعاً، توالت أيضاً هكذا فجأة تصريحات نوّاب كتلة الحريري: وحاولوا التذاكي، فمنهم من يقول (مثل عقاب صقر) إنّ موقفه نابع من حب عميق للديموقراطيّة (وصقر قال كلامه عند رجوعه من مهرجان «الجنادريّة» الشديد الديموقراطيّة في رقصاته)، ومنهم (أحمد فتفت) الذي كادت دموعه تنهمر وهو يعبّر عن تعاطف ديموقراطي مع الشعب السوري (وإن تزامن كلامه ومقابلة مع جريدة «الوطن» السعوديّة قال فيها: «الجميع يدرك مدى التقدم الذي أحرزته المملكة العربية السعودية بقيادة الملك عبد الله الذي جعل المبادرة العربية التي أطلقت من بيروت مقبولة في المجتمع الدولي وجعل الدولة الفلسطينية قابلة للتحقيق»، معتبراً ان «ذلك لم يكن ليتم لولا المبادرة السياسية والثقافية والاستراتيجية التي بناها الملك عبد الله». طبعاً، لم ينسَ فتفت شكر الملك عبد الله على موقفه في حرب تمّوز وما تلاها، والذي كان مؤازراً صراحةً للعدوان الإسرائيلي). حتى نديم الجميّل، خرّيح مدرسة عريقة في العنصريّة ضد الشعب السوري، أعلن وقوفه إلى جانب الشعب السوري. ولكن لم يقف كلّ الصف الطائفي العنصري في 14 آذار إلى جانب الشعب السوري، إذ إنّ ريمون جبارة (وهو صريح في العنصريّة ضد الشعبيْن السوري والفلسطيني على حدٍّ سواء) أعلن أنّه «كمسيحي» يقف مع بقاء النظام.
أما إعلام 8 آذار، فقد ردّد كل ترّهات الإعلام السوري الرسمي التي بلغت ذروتها في إعلان الأمين القطري المُساعد لحزب البعث، محمد سعيد بخيتان، أنّ الحركة الاحتجاجيّة في سوريا محدودة وصغيرة، وأنّ المتظاهرين «في سوريا لا يتعدّون بمجموعهم 100 ألف في كلّ المناطق، وهم أنفسهم يتظاهرون كلّ مرة». اعتمد البخيتان نفي ما لا يُنفى ـــــ أيّ الدليل القاطع. وحزب الله كان محرجاً أكثر من غيره، إذ إنّه جاهر بمناصرته للانتفاضات العربيّة مُبكِّراً. كما أنّ حسن نصر الله يتمتّع بما لا يتمتّع به غيره من الزعماء العرب من حيث الشعبيّة، وإن كانت قد تأثّرت سلباً بفعل الضخّ المذهبي السعودي المحموم (وإن كان الحزب يتجنّب بأي ثمن انتقاد النظام السعودي). لكن خطاب حسن نصر الله الأخير، قدّم دعماً غير مقصود للثورة العربيّة المضادة التي تصطاد طرائدها بسلاح العنف وسلاح المذهبيّة القاطع. لم يستطع نصر الله إقناعنا بالمنطق عن سبب تأييد ثورة البحرين ومصر وتونس، والامتناع عن دعم انتفاضة سوريا. الفوارق بين الحالات العربيّة؟ نيّة الحوار والإصلاح عند النظام السوري؟ أليس إعلان النيّتيْن سمة من خطاب كلّ الأنظمة العربيّة؟ قد تكون بعض الفوارق صحيحة سطحيّاً، لكن الصحيح أيضاً أنّ كلّ الأنظمة العربيّة هي أنظمة استبداديّة (بما فيها نظام المشير طنطاوي الجديد في مصر). إنّ القول بوجود مؤامرة خارجيّة ضد النظام في سوريا (وهي الرواية الرتيبة المُكرّرة في الإعلام الرسمي) يوحي بنجاح منقطع النظير لتلك المؤامرة، من حيث حجم التظاهرات ونطاقها، لكنّه لا يفسّر سبب اندلاع احتجاجات في مناطق مختلفة من سوريا، وبالتزامن مع احتجاجات العالم العربي. كما أنّ حزب الله يجاهر بدعوته، كما جاهر حسن نصر الله في خطاب أخير، للشعب السوري بدعم النظام الذي يمعن قتلاً بالترافق مع دعوات «الإصلاح». والحزب يسوّغ دعواته بالإشارة إلى موقف النظام من «الممانعة» ودعم المقاومة، ما يوحي التشكيك بنيّات الشعب السوري حول المقاومة. لا يتيح الحزب مجالاً لإمكان تخطّي نظام جديد في سوريا أفق الممانعة المحدود (أي باتجاه تطبيق ممارسة المقاومة لتحرير الجولان).
سقط الأطراف السياسيّون المختلفون في فخ التعامل مع الوضع في سوريا. ارتباط الطوائف وحركاتها السياسيّة بالخارج يمنع اتخاذ مواقف حرّة باتجاه المعارضة والاحتجاج في سوريا. وارتباط البعض في المعارضة السوريّة بالراعي الإقليمي نفسه الذي يرعى البعض في لبنان (أي الرعاية السعوديّة لفريق 14 آذار) يؤثّر على مواقف الفريقيْن في لبنان. لكن حزب الله وحلفاءه، يخطئون في اختزالهم لكلّ الشعب السوري ومعارضاته بأمثال مأمون الحمصي أو عبد الحليم خدّام. والموقف اللبناني الرسمي منقسم على نفسه، تبعاً لتنوّع الانتماءات والأهواء الطائفيّة والمذهبيّة.
ولكن مهما جرى ويجري في سوريا، فإنّ مشكلة لبنان عويصة في تعامله مع الشعوب العربيّة. تكمن المشكلة في حلّ الطائف نفسه، الذي أسسّ لاعتناق رسمي لعقيدة الفينيقيّة الشوفينيّة. يستطيع لبنان أن يتعاطف مع الشعب السوري ـــــ لا بل إنّه وجب عليه أن يتعاطف مع الشعب السوري في محنته ـــــ بعد أن يتعامل مع الضيوف السوريّين في لبنان بإنسانيّة وقانونيّة ورحمة. وينطبق هذا الأمر على التعامل اللبناني الشعبي مع الشعب الفلسطيني في لبنان. لكن 8 و14 آذار تكادان تعترفان بأنّهما لا تكترثان لوضع الشعب السوري وتطلّعاته. الفريقان يتطلّعان إلى خدمة مواقفهما الدعائيّة والسياسيّة، بصرف النظر عن مصلحة الشعب السوري.
إنّ الانتفاضات العربيّة حالة مرضيّة تصيب كلّ الأنظمة العربيّة الاستبداديّة من دون استثناء (كم تأتي مقابلة بشّار الأسد مع «وول ستريت جورنال» نافرة ومُتكبّرة بمقياس اليوم). والقول بمؤامرة خارجيّة على النظام في سوريا لا ينفي أبداً وجود حالة شعبيّة حقيقيّة في أوساط الشعب السوري. على العكس، تترافق الثورات العربيّة المضادة مع كلّ الانتفاضات العربيّة لوأدها، لكنّها لا تستطيع أن تنفي وجودها. والثورات المضادة على أنواع، منها المُطبّع مع العدوّ ومنها المُمانع بـ«ميوعة». أما حركة الشعب، فضدّ هذه وتلك.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)