"ملاحظات واستنتاجات حول الوضع الأمني في سورية وآفاقه السياسية ( الحلقة 2 ) "
 
" معارك القصير و حمص "

 

محمود جديد
 
تتبوّأ محافظة حمص موقعاً متميّزاً ، وأهميّة خاصّة بين محافظات القطر السوري للأسباب التالية :
- اتساع مساحتها التي تبلغ 42220 كم مربّع وهي المحافظة الأكبر في سوريّة حيث تعادل 22،8 ٪ من مساحة القطر ، ومرور نهر العاصي فيها، ولتجاورها مع خمس محافظات سورية وثلاث دول عربية ... ولأنّها المحافظة الوحيدة التي تقسم سوريّة إلى نصفين : شمالي ، وجنوبي حيث تمتد من الحدود اللبنانية إلى الحدود العراقيّة ...،
- يوجد في حمص مركّبات نفطية وصناعية هامّة ، ومحطة كهربائة ذات مردود طاقوي عالي ، كما أنّها المعبر الوحيد لشبكة نقل النفط باتجاه مرفأ طرطوس ، ومصفاة النفط في مدينة بانياس ، ومن حمص يتم توزيع شبكة الغاز الأهمّ باتجاه المنطقة الجنوبية والساحل السوري والمحافظات الشمالية ،كما تتقاطع فيها وتعبرها أهمّ عقد المواصلات في سوريّة ( طرقات ، وسكك حديدية ) .
- تتواجد فيها معسكرات هامّة للجيش ، والكلية العسكرية لإعداد الضبّاط ، ومطارات عسكرية عديدة هامّة.
- وجود تداخل سكاني بين سورية ولبنان حيث تضم عشرات القرى اللبنانية نتيجة الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار الفرنسي ..
- تشكّل حمص صورة مصغّرة عن الكيان السوري ، وداخل المجتمع الحمصي الطيّب تفاعل أبناؤه وتعايشوا وانصهروا . وكان رمزاً للتآخي الوطني .. وبالتالي فإنّ أيّ خلل يتعرّض له ينعكس سلباً على مجمل الساحة السورية ..
وقد لعبت مجمل هذه الخصائص والمزايا دوراً بارزاً في الانتفاضة منذ بدايتها ، ومن حضن حمص الوطني الدافئ تمّ اختطاف هذا المولود الثوري الذي طال انتظاره ، وحُرِف النضال السلمي عن مجراه تحت تأثير وانعكاسات الحلّ الأمني - العسكري من جهة ، وتفعيل وإثارة بذور التخلّف الكامنة في المجتمع وتسييسها من قوى داخلية وخليجية ودولية من جهة ثانية ، وعلى أنغام إعلام خارجي خبيث من جهة ثالثة ..
وبقيت حمص في دائرة الضوء أمنيّاً وسياسيّاً وإعلاميّا ، ومركز جذب لعناصر خارجية متطرّفة حتى سقوط بابا عمرو العام الماضي بيد النظام .. وبعد ذلك أزمنت حالة من العنف المزدوج أسفر عن تشريد عشرات الآلاف من أبنائها ، وأحدث شرخاً وطنيّاً بين سكّانها ...
معركة القصير وانعكاساتها الهامّة :
------------------------------------
تقع مدينة القصير على مسافة 35 كم جنوب غرب مدينة حمص وتتربّع على أرض منبسطة شرق مجرى نهر العاصي ، وعلى مسافة 15 كم فقط من الحدود اللبنانية .. وتُعتَبر القصير أكبر التجمّعات السكانية في هذه المنطقة ( 42 أف نسمة ) ، وقد شكّلت محطة أساسيّة على طريق التهريب الممتد من منطقة عرسال اللبنانية إلى حيّ بابا عمرو في حمص ، وقد ازدهر هذا الخطّ في ظلّ الفساد الذي استشرى في أجهزة الدولة المعنيّة بمكافحة التهريب بما فيه تجارة السلاح ...
ويقع غرب نهر العاصي عدد كبير من القرى ، ومن بينها مجموعة من القرى اللبنانية المتواجدة ضمن الحدود السورية وفقاً لتقسيمات الاستعمار الفرنسي ، وقد تعايش اللبنانيون مع هذا الواقع ، لا بل استفادوا منه من خلال مجانية التعليم والطبابة في سورية ، وقد حافظوا على علاقة طيّبة مع الأجهزة الحكومية والأمنية السورية في مختلف الحقب السياسيّة ، وسعوا لإرضائها وكسب ودّها للتكيّف مع تموضعهم الجغرافي هذا وللتعبير عن شعورهم بالامتنان ...
شكّلت مدينة القصير بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية ، ثمّ جنوح قسم منها نحو التسلّح والعنف مركز استقطاب للمجموعات المسلّحة التي تمدّدت في ريف القصير غرب نهر العاصي وشرقه ، وأصبحت بمثابة مقرّ قيادة للعمليات المسلّحة ، ومركزاً للإمداد بالذخيرة والسلاح والمال ، واستقبال المقاتلين القادمين من لبنان وعن طريقه .. ولذلك فرض المسلّحون نفوذهم وسيطرتهم على المناطق المجاورة للقصير ، وحاصروا بلدة الغسّانية ذات الأكثرية المسيحيّة ، كما تعرّضت القرى اللبنانية المتواجدة على الأرض السورية لكثير من الاعتداءات والمضايقات والتهديدات ، وتأثّر نشاط السكان الزراعي والتجاري والاجتماعي نتيجة ذلك ، وأخذت الأمور لبوساً طائفيّاً لكون معظم أبناء هذه القرى من الطائفة الشيعيّة والمتأثّرين بموقف حزب الله من الأزمة السورية ..
ولتحقيق هذه الغاية جرى تنسيق ميداني مكشوف بين الجيش السوري واللجان الشعبية المتواجدة في القرى اللبنانية داخل الأراضي السورية والمدعومة من مقاتلي حزب الله .. والضحايا الشيعة اللبنانيون الذين سقطوا سابقاً هم من القرى اللبنانية المتواجدة في الأراضي السورية إمّا دفاعاً عن النفس أو أثناء مشاركة لجان شعبية سورية في قتال المسلّحين .. وإذا استثنينا عناصر حماية وحراسة مقام السيّدة زينب في دمشق ، ( حيث أرجّح مشاركة لبنانية أو عراقية شيعية بتلك المهمّة )، فلا يوجد لديّ أي إثبات قاطع لمشاركة ميدانيّة سابقة لحزب الله وإيران وجماعة الصدر العراقية على الرغم من القيل والقال الذي ملأ وسائل الإعلام المختلفة وفق استراتيجيّة اعتمدت التأجيج الطائفي في المنطقة ، وكلامي هذا لا ينفي احتمال تدخّل هذه الأطراف في المستقبل بشكل مباشر إذا تعرّض وضع النظام السوري للاهتزاز أكثر فأكثر ، وكان السيّد حسن نصرالله واضحاً في خطابه الأخير أكثر من أيّ وقت مضى ...
وفي الوقت نفسه ، أُستبيحت الساحة السورية للتدخّلات الخارجية من عشرات الدول العربية والأجنبية ، وأصبح ( الجهاديون ) يُقدّرون بعشرات الآلاف وليس همّهم تطبيق الديمقراطية في سورية وإنّما لأغراض أخرى لا يخفونها على أحد ..
على ضوء ما تقدّم ذكره ، فإنّنا نرفض التدخّلات الخارجية سواء أجاءت من حلفاء النظام أم من خصومه وأعدائه ، لأنّ هذا التدخّل وكيفما كان شكله يشوّه النضال الوطني ضد استبداد النظام وفساده ، ولن يجلب لسورية سوى المزيد من الضحايا والخراب والدمار والتمزيق ..
ومؤخّرا ، وقبل حوالي اسبوعين أدخلت القيادة العسكرية السورية وحدات جديدة إلى منطقة القصير ، وكثّفت معاركها مع المسلّحين في غرب العاصي باعتبارها الحلقة الأسهل بالنسبة إليها ، وبالتنسيق والتعاون مع اللجان الشعبية المدعومة من حزب الله استطاعت السيطرة على معظم القرى الواقعة هناك ، ومن ضمنها تلّ النبي مندو الذي يشرف على معظم سهل القصير من كافّة الاتجاهات ممّا أعطاها مزايا تكتيكية هامّة من ناحية الرصد الأرضي ، والسيطرة الناريّة ، والتحكّم بجسر رئيسي على نهر العاصي .. وفي الوقت نفسه احتلت القوّات السورية بلدة آبل الواقعة على الطريق الذي يصل القصير بحمص ،و أصبحت على وشك فك الحصار عن الغسانية ، وفي طريقها لاحتلال البويضة الشرقية بهدف إغلاق المحاور والطرق المؤديّة إلى القصير وإكمال الطوق عليها والسعي لقطع كافة طرق إمدادها ..
وهنا من المفيد الإشارة إلى أنّ المسلّحين قد نجحوا سابقاً في السيطرة على مطار الضبعة ، وحقّقوا كسباً معنوياً مهمّاً ، مع العلم أنّ هذا المطار خرج من المعارك عندما تدهور الوضع الأمني حوله وتمّ إخلاء الطائرات منه ، إلّا أنّ وجود منشآت عسكرية وملاجئ الطائرات فيه يفسح المجال للمسلّحين للاستفادة منها وتقديم الحماية لهم من القصف المدفعي والصاروخي والجوّي .. ولكنّ تمركز المقاتلين فيه في ظلّ انكشاف الطرق المؤدّية إليه سيُضعِف إمكانيّة المناورة لديهم ، ويعقّد عمليّة الانسحاب منه عند الضرورة ، وبالتالي سيفرض عليهم خوض معارك كلاسيكية مع جيش محترف مدجّج بالسلاح ومدعوم جوّاً وهذا ليس لصالحهم ، وبالتالي سيفرض عليهم القتال حتى الرمق الأخير ، أو الاستسلام ..
وحسب تقديري ، فإنّ الجيش السوري لن يستعجل في محاولة حسم معركة القصير حتى لا تكون مكلفة له وصعبة ، وقد يحتاج إلى زجّ قوّات إضافية لهذا الغرض ..ولذلك من المحتمل أن يسعى إلى تطويق القصير ومحاصرتها وقطع طرق إمدادها ، واستكمال قضم القرى والبلدات المحيطة بها في القسم الشرقي من نهر العاصي ، وتشديد قبضته على الحدود اللبنانية - السورية بالتعاون مع اللجان الشعبية المدعومة من حزب الله هناك .. والمراهنة على ضعف الروح المعنوية للمسلّحين بعد التطوّرات الميدانية الأخيرة ، وقد برزت ملامحها بتصاعد الخلافات بين العناصر التابعة لهيئة الأركان ( سليم إدريس ) وجناح رياض الأسعد ، ومجموعات هيئة النصرة ، وقد ظهرت علناً بتسجيلات صوتية وبيانات تهاجم قيادات الجيش الحر والإئتلاف والمجلس الوطني ، وتتهمهم بأشياء كثيرة ...
- لقد انعكس ما يجري في الضمير على الوضع الميداني في حمص لوجود علاقة جدليّة بينهما ، وأصبحت المبادرة بيد الجيش السوري الذي أحرز مؤخّراً مكاسب ملموسة على الأرض في الحميدية ووادي السايح ، وفي حيّ الخالدية الهامّ وفي حال سقوطه النهائي من المحتمل أنْ تتطوّر الأوضاع في حمص بصورة أسرع وهذا مايسعى إليه النظام خلال هذين الشهرين ، وقبل وصول دعم فعّال بالسلاح الأمريكي والأوربي الذي كثرت الأقاويل والتصريحات حوله ، ومن المحتمل أنّه دخل مرحلة التنفيذ ..
وأخيراً ، فإنّنا نكرّر ما قلناه مراراً : إنّ المراهنة على الحل العسكري من قبل الطرفين سيؤجّج الصراع ، ويطيل أمد الحرب المفتوحة بأبعادها الداخلية والخليجية والدولية ، وسيدمّر كلّ شيء في سورية ، ولن يخدم هذا الطريق سوى أعداء أمتنا ، وبالتالي سيبقى خيار الحلّ السياسي بضمانات دوليّة ، وتوحيد جهود المؤمنين به من المعارضة هو الطريق الوحيد الذي يصون ماتبقّى من سورية ، ويضعها على سكّة التغيير الديمقراطي الجذري الشامل الذي لا بدّ منه ، والذي يعبّر عن إرادة الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب السوري ..
في : 2 / 5 / 2013