تفريغ الرئيس

 خليل النعيمي

2011-04-04

لم أكن أتصوّر، عندما كتبتُ قبل سنوات رواية 'تَفْريغ الكائن'، أن الأمور ستصل إلى هذا الحد. إلى حد التفريغ المرعب للكائنات من جوهرها الإنساني.
صحيح أنني كنت أرى، وأحس، وأرتعد هَلَعاً من انتشار تلك 'الآفة': آفة التفريغ المتعمَّد للإنسان من أحاسيسه العميقة، وتَخْميد 'طاقة الحياة'عنده، تلك التي من شأنها أن تُلْهِم روحه الرفض، وعقله التمرّد، وأحساسه العزّة. لكنني لم أكن أتصوّر أنها(آفة التفريغ) تملك كل هذه القُدرة الهَدّامة.
عندما استمعت إلى خطاب الرئيس أُِصبْتُ بالصدمة. لكأنه لا يحيا في التاريخ، ولا حتى على هامشه، بل هو 'محبوس' في قوقعة سلطوية كتيمة لا منفَذَ فيها، ولا مهْرَب منها. لكأنه ليس من أهل هذا الكوكب. ولم يسمع بشيء اسمه: الحرية، أو الديمقراطية، أو العدالة، أو المساواة. ولا يعرف ما معنى الأحزاب المستقلة عن السلطة، ولا النقابات الحرة، ولا الإضرابات العفوية 'اللامُسَيَّرة' المطالبة بحقوقها الإنسانية، ولا الإنتفاضات الكونية عندما 'يطفح الكَيْل'. لكأنه لا يتكلم اللغة التي تكلمت بها جموع المتظاهرين. ولايجمعه وإيّاهم هدف إنسانيّ واحد: الحق في حياة حرة كريمة.
ما أذهلني، أيضاً، هو جمهور المصفِّقين له، المصفقين بحماس وكأنهم يصفِّقون لأنفسهم. هم ليسوا ممثلين للشعب، إذن، وإنما شُرَكاء للرئيس في الاستغلال . 'الشعب يريد إسقاط النظام'. وهم يريدون 'إسعاد الرئيس'، ولو كذباً. لكن حركة التاريخ التي لا تعود إلى الوراء، ولا تهدأ قبل أن تبلغ مبتغاها، لن تعبأ بما يريدون، حتى ولو اهترأت أكُفُّهم تصفيقاً.
'تفريغ الكائن'، إذن، ليس عملية 'بسيطة'، ولا محدودة. إنها نوع من الإستيلاء على عقله، وعواطفه، وحبْسهما في حيِّز دِعائيّ مغلق. وبدلاً من منطق نقدي منفتح، يُحْشى الكائن المفرَّغ بـلامنطق' يعتمد على تزييف الواقع، وتجاهل حركة التاريخ، والإحتفاء بالتفاهة والإبتذال. وهو ما يعطيه شعوراً زائفًا بالتماسك. ويجعله لا يملك في حواره مع مَنْ يناقضه إلا الإنحياز الدوغمائي الأعمى لما تَلَقَّنه. حتى ليبدو مثل الكلب البوليسي المدرَّب لا يعرف إلا سيده، منتظراً منه، كلما أوْغََل في دفاعه المتَزَمِّت عنه، لَحْسَة أو لَمْسَة.
والكائن المفرَّغ، كما صرنا نعرف اليوم، كائن تبريريّ بامتياز. إنه 'كائن كُلّيّ'، مُكْتفٍ بذاته، لا مكان لأحد في رأسه، حتى لآلاف المتظاهرين أمام عينيه. علاقته بمحيطه تخضع لرغبته العميقة بالسيطرة المطلقة عليه. ودفاعه عن 'مواقفه 'يقوم على التزييف والإتهام. والإتهام، في هذه الحال، هو إزاحة للآخر من الوجود، لأنه حكم أخلاقيّ قاطع، وبلا سَنَد.
وقائع التاريخ لا تُشكٍّل مرجعاً بالنسبة له، وإنما مرجعه السلطة التي فرَّغَتْه، وحَوَّلَتْه، تدريجياً، إلى 'كائن ميت تاريخياً'، أو كائن سكونيّ. حتى أن نصف قرن من الزمن، برغم ما مرَّ فيه من عواصف وأحداث واضطرابات، لا يساوي بالنسبة إليه شيئاً. لأنه لا يعيش في حَمأَة الفضاء العام: فضاء المجتمع المليء بالعنف والتغيُّر والأحداث الجليلة. وما يجري في العالم الذي يقع خارج 'عالمه المزيَّف'، يجعل كل ما يحدث حوله يسيل فوق عقله الأملس دون أن يُخلِّف أثراً.
لا! لم أكن أتوقّع أن 'تفريغ الكائن' من جوهره الإنساني سيصيب كل أحد، وكل شيء، وأن عملية 'التفريغ' المرعبة هذه ستصل إلى هذا الحد: إلى حَدّ 'تفريغ حتى الرئيس' من محتواه.
واليوم، مهما يكن الأمر، لا يمكن للمفَرَّغين أن يسُدّوا منافذ الحرية بعدما انفتحَتْ، ولا أن يُرَقِّعوا براقع النظام التي اهترأتْ، ولا أن يُلَوِّثوا عبير الربيع بأنفاسهم الجائفة: 'ربيع الثورة العربية الكبرى'.
فليُصَفِّقوا في مجلسهم المغلق الذي اجتمعوا فيه بإرادة الرئيس من أجل القمع والفساد. فتصفيقهم البائس ليس أكثر من فَسْوَة في طاحون السلطة التي تطحن الريح.
أما المتظاهرون فيصرخون في العراء من أجل الحق والحرية والكرامة، مُرددين بتصميم:
لسنا هنا بإرادة الرئيس.
نحن هنا بإرادة الشعب.
ولن نتَزَحْزَح عن مواقفنا حتى على أَسِنَّة الحراب.