العولمة الأمريكية وتحطيم الوعي
معقل زهور عدي
ترافقت الحملة العسكرية على العراق والمنطقة العربية بحملة لاتقل
شراسة لتحطيم وعي العربي بهويته ، وتحطيم شعوره بالاعتزاز والكرامة ، وتحطيم آماله
وتطلعاته القومية ، وحتى لايكون الكلام مرسلا سأكتفي بواحدة من تلك الهجمات لتحطيم
الوعي وهي الهجوم على الانتماء العربي القومي لسورية والذي تجلى بنشر وتسويق
الأفكارالآتية
:
أن الفكر القومي هو مصدر الاستبداد ، وهو الغطاء الايديولوجي له
.
أن الفكر القومي قد هزم بهزيمة حزيران 1967 وما تبقى منه هو بقايا
جثة وليس جسما حيا .
أن الفكر القومي قد زال من الوجود وأصبح في ذمة التاريخ بعد ان
دخلنا عصر العولمة ، فمكانه الطبيعي هو المتحف ، والميل اليه يشبه الميل لزيارة
القبور .
لاوجود لشيء اسمه العروبة ، فسورية وطن لأجناس متعددة وهكذا كان
دائما ، والقول بالعروبة يعني المصادرة على القوميات الأخرى
.
لقد بلغ الهجوم السابق ذروته في سورية خلال السنوات الخمس السابقة ،
واختلط للأسف الشديد مع الدعوة للديمقراطية وحقوق الانسان وظهر يلبس ثوب الحداثة
والليبرالية باعتباره آخر موضة للعصر
.
ثمة فرق جوهري بين نقد الفكر القومي ، ونقد الممارسات السياسية التي
تمت تحت رايته وهو أمر مطلوب وملح ، وبين العمل لتدمير أسس ذلك الفكر ومرتكزاته
وصولا نحو تدمير مسألة الانتماء والهوية القومية العربية
.
هل الفكر القومي مصدر الاستبداد ؟
يحيل التأمل لمسألة الاستبداد لجملة من العناصر التاريخية –
الاجتماعية – الثقافية – السياسية ، فقبل انتشار الفكر القومي كتب عبد الرحمن
الكواكبي كتابه طبائع الاستبداد وعينه على الاستبداد العثماني بينما كان يعبر
بمناهضته للاستبداد عن بزوغ الفكر القومي العربي الذي يحلم بالديمقراطية.
فالاستبداد موجود قبل الفكر القومي ، كما انه موجود خارج الفكر
القومي بقدر ما هو موجود داخله ، فهناك الاستبداد الناتج عن التعصب الديني ( حكم
الفقيه ) ، والاستبداد الذي أفرزته التجربة الاشتراكية السوفيتية بعد انتصار
الستالينية ، والاستبداد الذي تفرضه الرأسمالية حين تتهدد مصالحها كما حصل في تشيلي
بعد انقلاب بينوشيه ، والاستبداد المرتبط بطغيان المؤسسة العسكرية وتحكمها بالدولة
..الخ.
من أجل ذلك فان احالة الاستبداد للفكر القومي هي احالة انتقائية
واجتزائية ، ولاينقذ الاحالة من ذلك الاتهام الاشكالية الديمقراطية في تجربة الفكر
القومي، فنقد الفكر القومي في مسألة افتقاره للبعد الديمقراطي شيء والقول انه هو
سبب الاستبداد شيء آخر مختلف
.
ينظر البعض الى ان تجربة الفكر القومي العربي هي تجربة عبد الناصر
وحزب البعث بصورة رئيسية ، أي ان الفكر القومي العربي قد وضع على المحك في تلك
التجربتين وهزم مع هزيمة حزيران 1967
.
نعم نحن هزمنا في حزيران 1967 هزيمة منكرة ، لكن اذا كان الحديث
يدور حول تجربة عبد الناصر بصورة خاصة فلماذا تذكر هزيمة حزيران وتنسى عملية اعادة
بناء الجيش المصري وتعبئة المجتمع المصري بروح المقاومة وصولا نحو حرب 1973 التي
قامت مصر فيها بانجاز عسكري باهر كاد يتحول لنصر كامل لولا التدخل الأمريكي والجسر
الجوي الذي أقيم لنقل الدبابات لاسرائيل أثناء الحرب ، وسوء الادارة السياسية للحرب
اذا كان انهزام الجيش المصري في حزيران 1967 تعبير عن هزيمة نظام
وفكر، فلماذا لايكون اعادة بناء ذلك الجيش خلال بضعة سنوات وخوض حرب الاستنزاف مما
أسس للانجاز العسكري الهام في 1973 تعبيرا عن حيوية وقدرة ذلك الفكر والنظام على
الاستفادة من الهزيمة وتجاوزها ببنائه لجيش جديد أثبت فعاليته بطريقة لاتقبل
التأويل.
لايمكن القول ان هزيمة حزيران بنت لتجربة عبد الناصر وحرب تشرين
1973 لاأب لها ، ذلك يخالف المنطق البسيط.
اذن هناك تجربة ممتدة تتضمن انتصارات وهزائم ، هناك نقاط مضيئة
لافائدة من التنكر لها ، ونقاط مظلمة لافائدة من تبريرها بل يجب البحث عن أسبابها
أما القول بالفشل التام والتاريخي فينقضه انجاز حرب اكتوبر 1973.
هل زال الفكر القومي من الوجود بدخول عصر العولمة ؟
ما شهدناه في عملية تفكك الدولة السوفييتية هو استعادة النزعة
القومية وليس اضمحلالها ، وكذلك في تفكك يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلقان ،
الحقيقة ان مايهم العولمة هو تفكيك الكيانات الكبيرة التي تشكل عائقا في وجه
الهيمنة والتدخل الاقتصادي والسياسي ، وحين تكون القومية عاملا مساعدا للتفكك فهي
مرحب بها كما في حالة يوغوسلافيا ، اما حين تكون القومية عامل توحيد لكيانات
مستهدفة عندها تكون عدوا للعولمة ، أما الناتج الموضوعي للعولمة المتضمن دمج
الاقتصادات المحلية في نظام اقتصادي عالمي ، ذي ملامح ثقافية مشتركة فهو أمر سيؤدي
على المدى البعيد بدون شك لتذويب الفوارق القومية لصالح هوية عالمية انسانية قيد
التشكل لكنها مازالت بعيدة المنال.
المسألة التي تستحق التفكير الآن هل القومية العربية اليوم تسير في
اتجاه التاريخ أم في الاتجاه المعاكس ؟
هناك معطى بدهي ليس موضعا للنقاش أن ثمة هوية ثقافية ولغوية عربية
مترسخة تمتد جذورها في التاريخ وفي شخصية الانسان العربي وروحه ، هذه الهوية لم تصل
الى غايتها التي وصلت اليها معظم امم الأرض وهي الوحدة السياسية
.
في سعيها لتفكيك الدول القطرية تتيح العولمة بصورة موضوعية ( على
غير رغبة منها ) الفرصة لاعادة النظر بالحدود القطرية التي كان ينظر اليها كشيء
مقدس ، ويمكن للشعوب العربية الاستفادة من هذا العمل التدميري بتوجيهه في الاتجاه
المعاكس ، لكن ذلك مرهون بقدرتها على كسر المرحلة الراهنة من هيمنة نظام العولمة (
عسكرة العولمة ) ، فاذا تمت هزيمة أمريكا في العراق وتبع ذلك صحوة شعبية بحيث يتم
تصفية نتائج ا لحملة العسكرية السياسية ، وحدث مايشبه ذلك في لبنان وفلسطين فان
الباب سيفتح لأول مرة على امكانات للتعبير عن الأهداف البعيدة للشعوب والتي تم
قمعها بفعل قوى الاستبداد وقوى العولمة العسكرية ، لايعني ذلك بالضرورة انتهاء
الصراع أو حسمه ولكن سينتقل الصراع الى مستويات مختلفة أقل قدرة على مقاومة ارادة
الشعوب
.
تتيح الديمقراطية الفرصة لهدم منظم للحدود بين الدول العربية ، لكن
ذلك الفعل لن يجري من تلقاء ذاته ، من هنا تنبع ضرورة الفكر القومي ، لكن عليه هذه
المرة اخضاع حركته للأطر الديمقراطية ، فالشعوب هي التي ستصنع التوحيد وليس القادة
التاريخيين أمثال بسمارك.
هل لسورية هوية قومية عربية أم هي بلد متعدد القوميات ؟
تذكر احصاءات الأمم المتحدة المعتمدة والمأخوذة عن مصادر مشتركة (
وليس مصدرا واحدا ) لعام 2005 أن نسبة العرب السوريين في سورية تبلغ 90.3 % من
اجمالي السكان بينما تبلغ نسبة الأكراد والأرمن والشركس والتركمان وسائر المجموعات
العرقية الأخرى مجتمعة 9.7 % ، ووفق ما أعلمه فان قليلا من دول العالم تملك مثل ذلك
التجانس القومي فتركيا مثلا لاتزيد نسبة القومية الرئيسية التركية فيها عن %65(
يبلغ عدد الأكراد والعرب فقط في تركيا بين 20-25مليون من أصل 70 مليون نسمة ، وفي
ايران تبلغ نسبة القومية الفارسية الى اجمالي السكان بين 55-60 % ( هناك العرب
والأكراد والبلوش والطاجيك وغيرهم ) ، وفي فرنسا اليوم حوالي 5 ملايين من اصول
عربية مغربية ومشرقية وأفارقة مسلمين من غير العرب وذلك فقط يعني نسبة 10% من عدد
السكان ، دون ان نتحدث عن العرقيات الأخرى كاليهود وغيرهم ، وفي المانيا هناك سبعة
ملايين مسلم عربي وتركي وافريقي عدا العرقيات الأخرى ويمكن سرد عشرات الأمثلة
الأخرى
.
هي مهزلة اذن الحديث عن كون سورية دولة متعددة القوميات بمعنى الغاء
الهوية القومية لها ، لكن المأساة أن البعض أراد ان يصدق ويطبل ويزمر لفكرة عدم
وجود هوية قومية لسورية ليقال عنه انه ليبرالي وعصري ( على الموضة ) وليكسب عطف بعض
المجموعات الكردية
.
ذلك لايعني بحال من الأحوال انكار حق الأكراد في التمتع بالمساواة
المواطنية التامة من جهة ، وممارسة الحقوق الثقافية واللغوية بحرية ومساواة من جهة
أخرى ، لكن ان نتناسى بحرا من التاريخ العربي لسورية ، وواقعا ديمغرافيا يفقأ العين
مقارنة بكل دول العالم ونجعل من سورية دولة بدون هوية قومية من أجل نسبة لاتزيد عن
7% من السكان- ويمكن ان تنخفض الى 4% بملاحظة العرب الفلسطينيين في سورية والذين
أصبحوا بحكم السوريين- فذلك أمر سخيف
.
هي ثقافة الهزيمة اذن ومن ورائها حملة العولمة الأمريكية لتحطيم
الوعي واستبداله بوعي مزيف متهافت يفرض علينا الغاء عقولنا ليصبح بالامكان الغاء
هويتنا وانتمائنا الواضح كالشمس
.
لكن ذلك الجهد يبرهن كل يوم في العراق وجنوب لبنان وفلسطين مثلما
سيبرهن في سورية أنه محض حراثة في بحر.