لبنان إلى أين؟
سليم الحص
مصير
لبنان مرتبط عضوياً بمصير المنطقة. لذا فإن السؤال: <لبنان إلى أين>؟ يؤول بالضرورة
إلى السؤال: <المنطقة إلى أين>؟
إن تلازم لبنان والمنطقة العربية مصيرياً
عائد إلى جملة حقائق راهنة: منها أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه ولكنه أيضاً بلد
عربي. كانت عروبة لبنان موضع جدل وتجاذب إلى أن حسم اتفاق الطائف المسألة بالتأكيد
أن لبنان عربي الانتماء والهوية. فكون لبنان بلداً عربياً يجعل مصيره رهناً بمصير
الأمة العربية، تماماً كما يكون مصير أي جماعة داخل لبنان رهناً بمصير الوطن
اللبناني. ثم إن عروبة لبنان تُرجمت مع الزمن مصالح ووشائج على شتى الصعد،
اقتصادياً ومالياً وسياسياً وثقافياً وحتى سكّانياً وبشريا. وهي تُختصر بمصطلح
<العلاقة القومية>. ولقد ظهر هذا التلازم جلياً في الأزمات الوطنية التي عصفت
بلبنان منذ استقلاله، متبديا، في بُعد إقليمي ناتئ في معظم تلك الأزمات.
فلا غلو والحال هذه في القول إن الإجابة
عن السؤال: لبنان إلى أين؟ تتوقّف إلى حدٍ بعيد على الإجابة عن السؤال: الأمة
العربية،
وبالتالي، المنطقة، إلى
أين؟ وفي صوغ الإجابة نرانا مضطرّين إلى التمييز بين ثلاثة مشاهد افتراضية أو
سيناريوهات: أولها يصوّر أسوأ الاحتمالات، وثانيها يصوّر تعايشاً مع أزمات المنطقة.
وثالثها يصوّر أحسن الاحتمالات.
سيناريو أسوأ الاحتمالات:
كنا حتى وقت قريب نقول إن
مصيرنا، نحن العرب، يُكتب في فلسطين. ولبنان مرتبط بفلسطين كما سائر العرب قوميا،
ويعزز هذا الارتباط كون لبنان محاذياً لفلسطين ومعرّضاً تاليا لتلقي تداعيات مآل
القضية ربما أكثر من سواه. إلى ذلك فلبنان يستضيف 300 إلى 400 ألف لاجئ فلسطيني،
مصيرهم يتوقّف على مآل القضية، ولبنان معني مباشرة بمصير هؤلاء وانعكاساته على
أوضاع البلد الداخلية.
ولكن الشعب الفلسطيني
أظهر، منذ قرار تقسيم فلسطين العام ,1947 قدرة خارقة على الصمود ومواصلة النضال في
وجه حرب غير متكافئة شنّتها وتشنها ضدّه أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط هي
إسرائيل، مدعومة دعماً كاملاً وأعمى من جانب الدولة العظمى، أميركا، في شتى
المجالات وعلى كل المستويات. هذا الواقع كان مدعاة اطمئنان لدى سائر العرب إلى أن
الفلسطيني لن يستسلم ولن يفرّط في قضية فلسطين، التي هي قضية العرب المركزية.
إلاّ أننا بتنا نقول، منذ
الاحتلال الأميركي للعراق، إن مصيرنا نحن العرب إنما يكتب في العراق، حيث أفضى
الاحتلال إلى حال كارثية مأساوية تنعكس في مشروع فتنة يومية بين الفئات العراقية.
إثنياً بين عربي وكردي، ومذهبياً بين سنّي وشيعي. ولم يعد ثمة أدنى ريب في أن مشروع
الفتنة هو من صنع الاحتلال. فمشروع الشرق الأوسط الكبير بدعة أميركية، والطريق إليه
هو اختراع اميركي آخر يُسمى <فوضى بنّاءة أو خلاّقة>. والفوضى، بنّاءة كانت أم
خلاّقة، إنما هي الإسم المستعار للفتنة التي يراد من ورائها تفتيت العراق كيانات
إثنية ومذهبية تمهيداً لتعميم الفتنة في المنطقة، بحيث لا يسلم منها بلد من بلدان
المشرق العربي، فتسهل إعادة لمّها في كيان جديد هو الشرق الأوسط الكبير، تهيمن عليه
الصهيونية من حيث إن إسرائيل ستكون الكيان الوحيد الذي سيبقى صامداً متماسكاً فلا
يقع في أتون الفتنة التي تُدبّر للعرب.
في هذا السيناريو لأسوأ
الاحتمالات، فإن لبنان لن يسلم من مغبّة انهيار الأوضاع في أقطار المنطقة العربية،
فتكون الحصيلة، والعياذ بالله، تفتيت لبنان.
سيناريو التعايش مع أزمة
المنطقة:
سيكون في استطاعة لبنان
تدارك أخطر تداعيات تدهور الأوضاع في المنطقة في حال وقوعه، لا سمح الله، إذا ما
تمكّن من أن ينمّي مقومات التعايش مع أزمات المنطقة بحيث يكتسب قدراً من المناعة في
وجه هبوب العواصف الوافدة من المحيط. ويكون ذلك بتوطيد بنيان الوحدة الوطنية
اللبنانية على قواعد الوفاق الوطني. وهذا يفترض، من جهة، تنمية روح المواطنة في
نفوس الأجيال اللبنانية، ومن جهة ثانية، التوافق على برنامج للإصلاح الشامل يكون
مرساهُ تحصين الحرّيات العامة وتفعيل الممارسة الديموقراطية. والبداية تكون في
قانون انتخاب جديد يضمن ديموقراطية التمثيل الشعبي وسلامة العملية الانتخابية.
في هذه الحال. يتمكّن
لبنان من تجاوز أخطر تداعيات الأزمات التي قد تحلّ بالمنطقة وتفضي، لا قدّر الله،
إلى تفتيت الكيانات العربية. فيحفظ لبنان وحدته وكيانه. ولكن في ظل حال الشرذمة
والانقسامات والتنابذ التي تطبع الواقع الوطني في لبنان هذه الأيام، لا بد من طرح
السؤال البديهي: هل سيتمكّن اللبنانيون من توطيد بنيان وحدتهم الوطنية على قواعد
الوفاق الوطني، انطلاقاً من برنامج إصلاحي شامل يتوّج بتفعيل الممارسة الديموقراطية؟
إننا نشهد هذه الأيام محاولات لتحقيق المطلوب على هذا الصعيد، عبر مؤتمر الحوار
الوطني، وعبر هيئة خاصّة شُكّلت لوضع مشروع قانون انتخاب جديد، وعبر مشروع إصلاحي
تنموي يُفترض أن تعرضه الحكومة اللبنانية في ورقة عمل تُعدّ لمؤتمر يُعقد في بيروت
يضمّ دولاً ومنظمات دولية مانحة. هذه المساعي لم تُثمر بعد من النتائج ما يمكن
الرهان عليه.
سيناريو أحسن الاحتمالات:
يُروّج في وسائل الإعلام
لاحتمال أن تكون قوات الاحتلال الأميركي في العراق قد بلغت من الإخفاق والبلبلة ما
جعل الإدارة الأميركية في موقع التفكير الجدّي في سحب قواتها من العراق، ربما خلال
سنة. ولن تستطيع ذلك من دون أن تحل محلّها قوات بديلة تساعد السلطة العراقية على
استعادة الاستقرار.
وثمة رواية قيد التداول في
وسائل الإعلام مفادها أن أميركا على استعداد للدخول في محادثات مع إيران حول الوضع
في العراق. والمقدّر أن جدول أعمال المحادثات سوف يتركّز على إنشاء قوات عربية أو
إسلامية مشتركة، على غرار قوات الردع العربية التي انتشرت في لبنان خلال أزمته
الكبرى بقرار من القمة العربية في القاهرة عام .1976 ويهم أميركا، على ما يبدو، أن
تشارك سوريا في هذه القوات لغير ما سبب: فمن جهة كي لا توصم تلك القوات داخل العراق
بأنها أميركية بلباس عربي، نظراً لعلاقة بعض الأنظمة العربية بالإدارة الأميركية،
وهذا ما لا ينطبق على سوريا التي تتعرض لضغوط ومضايقات مشهودة من الإدارة
الأميركية. ومن جهة أخرى فإن سوريا بقيت متميّزة بعدم التوقيع على تسوية منفردة مع
إسرائيل، خلافاً لمصر والأردن. لذا فالمشاركة السورية قد تُضفي على القوات المشتركة
صدقية خاصة بين العراقيين. ولكن سوريا متحالفة في العمق مع إيران، ولن تتولى دوراً
عسكرياً في العراق لا يقترن برضا إيران التي تتمتع بنفوذ واسع في العراق خصوصاً بعد
الانتخابات فيه.
في حال جرت المحادثات بين
أميركا وإيران حول العراق، وأفضت إلى إطلاق قوات عربية أو إسلامية مشتركة، وشاركت
فيها سوريا على وجه فاعل، وفي حال اقترنت المبادرة العسكرية بمبادرة سياسية للتوفيق
بين العراقيين على غرار ما كان في لبنان عبر لجنة عربية رباعية ثم عبر مؤتمر
الطائف، فإن ذلك قد يُسهم في إعادة السلام والاستقرار إلى الربوع العراقية، فتسلم
المنطقة العربية من مغبّة الفتن التي تدبّر للعراق ومن ثم للمنطقة، وتستتب الأوضاع
في سائر الأقطار العربية، وكذلك في لبنان. ولا بد أن يترافق ذلك مع تصحيح العلاقة
المأزومة حالياً بين لبنان وسوريا بإغضاء من أميركا ورضاها وربما بحضّ منها.
إذا تحقق هذا السيناريو،
وهو يفترض أحسن الاحتمالات، فإن الأوضاع في لبنان يمكن أن تنقلب رأساً على عقب
فتزول حال التأزم والانقسام والتنازع، وتتوقّف تالياً التدخلات الخارجية في شؤون
لبنان الداخلية في وجهها السلبي.
في حال تحقق السيناريو
الأخير، القائم على أحسن الاحتمالات، فإنّ الثمرة ستكون ازدهاراً ونمواً لا حدود
لهما في لبنان، وسيرتدّ هذا التطور إيجاباً على سائر أوجه الحياة والمعيشة في
لبنان. فالبلد الذي استطاع تحاشي الانهيار في أسوأ الظروف، سيكون قدره المحتوم
تحقيق ازدهار فائق ونمو باهر إذا ما استتب الوضع فيه ومن حوله.
لبنان إلى أين؟ إلى هذا
الأفق الواعد المشرق بإذن الله، رهاناً على أحسن الاحتمالات.
|