سوريا.. سقى الله
أيام زمان
أكرم البني
عن الجزيرة نت
ربما لا تدهشك
الاعتقالات التي تجري اليوم في سوريا، فهي استمرار
طبيعي للهجمة الأمنية
التي تشهدها البلاد منذ أشهر وطالت عدداً من المعارضين
السياسيين
والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني، لكن ما يدهشك حقاً
هو الذريعة التي
تشاع لتسويغ الاعتقال بسبب توقيع مجموعة من المثقفين
على وجهة نظر حملت
عنوان "إعلان بيروت دمشق" اجتهدت لوضع مخارج آمنة لوقف
التدهور في
العلاقات السورية اللبنانية!
وما يدهشك أكثر هو
تزامن الاعتقالات مع حملة غير مسبوقة من الإعلام
السوري حاول خلالها تسويق
اتهاماته المعروفة ضد أصحاب الرأي الآخر من العمالة
والخيانة والاستقواء
بالأجنبي..إلخ، ربطاً بخطاب رسمي هجومي مناكف حاول
السخرية والتطاول على
بعض الجهات العربية والأوروبية التي دعت لوقف هذه
الممارسات وإطلاق سراح
المعتقلين.
لا يصعب على المتابع
اكتشاف أن ثمة مسلسلاً تنجز حلقاته واحدة تلو الأخرى،
للإجهاز على الحراك
المدني والسياسي المحدود أصلاً في سوريا.
بدأ ذلك
بالتدخل الأمني الصريح لمنع أي نشاط أو لقاء حواري
تفوح منه رائحة
المعارضة، مروراً بعودة أساليب تخويف الناس عبر تكرار
الاستدعاء الأمني
وتوجيه حزمة من التحذيرات وتهديد بعض الناشطين وإحصاء
تحركاتهم، والتضييق
على مراسلي وسائل الإعلام العربية والعالمية ومحاصرة
دورهم في نقل الأخبار
عن أحوال المعارضة والانتهاكات التي تتعرض لها، جنباً
إلى جنب مع
الاعتقالات المتكررة ولأسباب وحجج واهية.
وصلت المسألة أخيراً
إلى صفوف الطلاب الجامعيين وطالت أكثر من عشرة منهم
بذريعة أنهم يتداولون
الرأي أو يفكرون -مجرد تفكير- بدورهم في الإصلاح
والتغيير، ما يبرهن على
أن "إعلان بيروت دمشق" لم يكن أكثر من ذريعة جديدة
لتصعيد الدور الأمني ضد
الرأي الآخر.
ويبدو أنه ليس أكثر من
فرصة لم تفوتها السلطات لإضفاء نوع من الشرعية على
أسلوب القمع والمحاكمات
والاعتقال وإشاعة أن هناك خطأ ما أو خللاً كبيراً حدث
استدعى توقيف هؤلاء
النشطاء وسجنهم، بما في ذلك تسويغ التهم الغليظة
الموجهة إليهم.
كيف يمكن تفسير ما
يجري؟! وما هي أسباب التحول السلطات السورية المتسارع
من أساليب الاحتواء
والاسترضاء وسياسة غض الطرف إلى العقلية الأمنية
القديمة وسياسة العصا؟
ربما يكون الأمر دليل
أزمة تعاني منها قوى النظام تتكشف عجزاً وتخوفاً من
الاستمرار بالطرائق
اللينة في مقابل ثقة مفرطة بأن العمل المجدي والمجرب
هو الاستمرار في
إرهاب الناس لتفريغ الاحتقان الذي تنامى مع تصاعد
الحصار الخارجي.
أو ربما هو مجرد أفعال اعتباطية بسبب التنازع الأمني
واضطراب أدوار الأجهزة ومراكز القوى في التعامل مع
الحراك الداخلي.
أم لعله ضربات وقائية
عشوائية، يجد البعض في عشوائيتها وفي اعتباطية اختيار
الأهداف، فعلاً
مقصوداً يحقق بأقل كلفة ممكنة أفضل أشكال زرع الخوف
والرهبة وتالياً إعادة
المجتمع إلى ماضيه الراكد والمؤلم.
أو لعل المسألة تقوم
على المبادرة لقمع وإجهاض الأصوات الناقدة والمطالبة
بالانفتاح والإصلاح
السياسي التي بدأت تحظى باهتمام متزايد في أوساط الرأي
العام وتسبب القلق
الشديد عند أصحاب الأمر والنهي.
وربما هو محاولة تجربها
السلطات السورية كي تظهر نفسها قوية لا تأبه لأي كان
وأنها الوحيدة
القادرة والمتفردة في تقرير أي شيء، وأن موقعها
المسيطر وهيبتها السياسية
لم يصابا بأي أذى بعد الأخطاء التي ارتكبت وفي ضوء
الجديد الحاصل في
المنطقة.
والنتيجة أن الطريقة
التي عالجت بها الحكومة السورية مبادرة إعلان بيروت
دمشق، مع أنها تنذر
بمزيد من تقدم الدور الأمني في الحياة العامة والإصرار
على استخدام القبضة
الحديدية ضد القوى الحية، تظهر أيضا برهاناً جديداً
على عمق وقوة المصالح
الخاصة التي تدفع السلطات للسير عكس المنطق وضد
الاتجاه الطبيعي لما هو
مطلوب في معالجة أزماتنا وأمراضنا المزمنة وفي مواجهة
مختلف التحديات.
وتالياً ما يحصل اليوم
في سوريا ليس له من حيث الجوهر سوى تفسير واحد هو أن
السلطة لم يعد أمامها
من طريق لتأكيد سلطانها سوى إعادة زرع الخوف والرعب
التقليدي في المجتمع،
حتى لو كان الثمن مزيدا من التوغل في المجهول والضياع.
وليست الحجج الواهية أو
الذرائع والاتهامات بالعمالة والخيانة التي تشيعها
لتبرير الاعتقال
والمضايقات بحق من يشهد لهم بمواقفهم الوطنية الأصيلة،
إلا محاولة يائسة
لاستعادة هيبتها وترميم ما أصابها من صدوع وشروخ!
في المحصلة يتضح أن
النظام يعود إلى معالجة مشكلاته بالأمن، بواسطة الجهة
الوحيدة التي ربما
يطمئن لموالاتها، والتي استطاعت نشر أجواء الخوف
وتخريب الحياة السياسية
وأحياناً افتعال مشكلات هامشية لحرف أنظار السوريين عن
مشكلاتهم الحقيقية
وتسميم علاقاتهم وشحن حياتهم بالعنف.
وهذا يعني أن شعارات
التغيير والتجديد اختفت وظهرت الحقيقة، وأن المجتمع
مرشح لأن يقف من جديد
بين يدي نظام الاستبداد القديم ذاته الذي بدأ يلجأ
لاحتواء الداخل بتعميم
المزيد من الخطوط الحمر وتقسيم البلد بصورة مسطحة من
جديد إلى: مع السلطة
وضدها، أو إلى: موالين وعملاء معادين.
وهذا
الأمر يؤكد الرأي القائل بأن النخبة الحاكمة غير
مستعدة للتنازل وتقبل
الآخر واحترام التنوع والتعددية وأنها لن تتردد في
استخدام كل الوسائل
المتاحة للاستحواذ على السلطة وتشديد السيطرة، كاشفة
بوضوح منقطع النظير
زيف الوعود وادعاء الإصلاح والانفتاح.
وهي بذلك تعزز فرضية
تنتشر رويدا رويدا بأن سلطة على صورة السلطة السورية
عجنها تاريخ من القوة
والإكراه، عاجزة عن إصلاح نفسها وإصلاح المجتمع.
لقد تنازلت معظم
الأنظمة الشمولية عن بعض مصالحها وامتيازاتها واستجابت
لاستحقاق الانفتاح
الديمقراطي وسارعت إلى تأهيل نفسها لعلاقة جديدة مع
المجتمع، خصوصاً لجهة
طي ملف الاعتقال السياسي وتربية النفس على قبول مبدأ
التعددية واحترام
الرأي الآخر.
كما بادرت بإجراء
تعديلات خففت إلى حد كبير من القوانين الأحادية
الظالمة، لكن الأمور لا
تزال على حالها في بلادنا إن لم نقل تسير نحو الأسوأ.
فإلى متى تستمر
الممانعة والمماطلة؟ أين مصلحة الوطن من كل ذلك؟ أين
مصلحة الوطن في
الاستمرار في رفض الآخر ومنع إبداء الرأي وتجريم
الاجتهاد والاختلاف؟!
ألا يستمد الوطن عافيته
وعزمه من حرية شعبه ومن قدرته على احترام تنوعه، أم أن
ثمة من لا يزال
يعتقد رغم عمق مآسي التجارب التاريخية ودروسها المريرة
بأن قوة الوطن هي
فقط من قوة السلطة ومن تعاظم قدرتها على استخدام
الأساليب الأمنية لقهر
المعارضة وسيادة الرأي الواحد؟!
وتالياً، من له الحق في
منع مثقفين سوريين ولبنانيين من التوافق على رسم صورة
صحية للعلاقات بين
البلدين؟ أليس ما يجمع الشعبين هو الأكبر والأعمق كما
يقول أهل النظام
أنفسهم؟ وأين الشعارات التي أصموا الآذان بها عن "سوا
ربينا" (معا
تربينا) وشعب واحد في بلدين!!
لنعد قليلاً إلى الوراء
ونتذكر كيف أثار مناهضو التغيير الصعوبات التي عانت
منها الدول الاشتراكية
السابقة في مخاض بحثها عن حريتها وكرامتها لتسويغ
استمرار التسلط والقمع
وتخويف الناس من أي تبديل أو تحول نحو الديمقراطية.
وكيف أغفلوا أو تغافلوا
عن سابق إصرار وتصميم النتائج الإيجابية التي حققتها
هذه البلدان بعد
سنوات، وقد نجحت بخيارها الديمقراطي في تجاوز حالة
الترهل والركود ومعالجة
أهم السلبيات والمثالب التي وسمتها طيلة عقود، الأمر
الذي شجع بلدانا أخرى
على تبني هذا الخيار وتعميقه كما جاءت تجارب أوكرانيا
وجورجيا وروسيا
البيضاء.
ثم لماذا لا نعتبر
بالتجربة اليوغسلافية وكيف أفضت ممانعة النخبة الحاكمة
ورفضها الإصغاء
لصوت الناس ولاستحقاق التغيير إلى حمامات دم وإلى
تفكيك هذا البلد بصورة
لا سابق لها وجر العامل الخارجي كي يفرض شروطه على
هواه، بخلاف تجارب أخرى
في تشيكيا وسلوفاكيا وبولونيا وبلغاريا وقبلها في
إسبانيا والبرتغال حيث
أفضت تنازلات أهل الحكم إلى ضمان انتقال سلس وسلمي
للمجتمع من السيطرة
الأحادية إلى الديمقراطية وحفظ وحدته وقواه وثرواته.
توقع المتفائلون في ضوء
الفسحة أو الفرصة التي تتاح اليوم أمام السلطات
السورية لالتقاط أنفاسها
بأن هذه الأخيرة ستكون أول من يبادر باستثمار الوقت
المستقطع للانفتاح على
المجتمع وقواه السياسية، خاصة حين ظهر للعيان أن قوة
الأوطان لا تقاس بقوة
سلطاتها أو مدى تماسكها الأمني وقدرتها على بث الرعب
والهلع في النفوس بل
ببناء راسخ يستند إلى وحدة طواعية تقوم على أسس الحرية
والديمقراطية
واحترام الإنسان.
لكنّ للمتشائمين رأيا
آخر، إذ يجدون من الصعوبة بمكان تقدم المسوؤلين
السوريين صوب الانفتاح
والإصلاح وتجاوز عقلية الماضي وأساليبه، فهم قد
اعتادوا أسلوب القوة
والقمع في السيطرة على المجتمع، وباتوا مطمئنين إلى أن
العمل المجدي لدوام
الهيمنة ليس التعاطي مع حقوق الناس بل الاستمرار في
إرهابهم وفي ردع
المواقف الناقدة وجديد النشاطات المدنية والسياسية.
وهم يتساءلون أين
تريدون أن نبحث عن التفاؤل، أفي السعي إلى تثبيط الهمم
وتخويف البشر
وتقويض دورهم في التصدي للأخطار الماثلة أمام المجتمع،
أم في سيادة لغة
القسر والإكراه ونبذ الآخر وعدم الاعتراف بحريته وحقه
في إبداء الرأي؟
أم
تريدون أن نبحث عنه في الدعايات الرسمية التي تبدي
إصراراً على الخيار
الأمني واعتبار ما يحدث من اعتقالات هنا وهناك ومن
ضغوط ومضايقات أمنية،
مساراً صحيحاً ينبغي الاستمرار فيه دون مراجعة أو
تغيير؟!
يلمس
أي مراقب للحياة السياسية السورية شدة ضعفها ومدى
الانحسار الذي أصابها
بسبب استمرار المضايقات الأمنية والاعتقالات المتفرقة،
وجراء محاولة إعادة
نشر الخوف التقليدي من أخطار العمل السياسي إلى سابق
عهدها لتتملك نفوس
البشر وتشل رغبتهم ودورهم في المشاركة في الشأن العام.
فليس الضغط الخارجي هو
الخطر الوحيد المحدق بالبلاد، اللهم إلا إذا كان الغرض
من المبالغة في
إبرازه هو ابتداع ذريعة جديدة للتهرب من المسؤولية أو
صنع مشجب على شاكلة
الخطر الصهيوني لتعليق استحقاق التغيير السياسي
المطلوب وتحنيطه، فثمة
أخطار أشد وطأة وأثراً وأكثر فاعلية في تعميق شروخ
المجتمع واحتقانه
وتعزيز دوافع يأسه وإحباطه وتالياً ضعفه.
من أهمها استمرار عقلية
الوصاية على المجتمع وعلى الآخر، وغياب الحريات
والتعددية السياسية، وترهل
مؤسسات الدولة، والفساد وسوء الأوضاع الاقتصادية
والمعيشية، والتخلف
العلمي والثقافي، وفي القلب من كل ما سبق ظاهرة
الاعتقال السياسي وسجناء
الرأي.
في الماضي غير البعيد
وفي زيارته لإحدى المدن السورية اعترض موكب خالد العظم
-وكان رئيسا
للوزراء وقتئذ- بعض المحتجين على سياساته ورموه بوابل
من البندورة والبيض
الفاسد!
وفي طريق عودته إلى دمشق كان أول سؤال طرحه على
مرافقيه هو ماذا فعلتم بالمحتجين؟! فكان الجواب أنهم
قد أودعوا السجن..
طالب على الفور بإطلاق
سراحهم رافضا كل الذرائع التي سيقت لتسويغ استمرار
الاعتقال بأنهم قد
أساؤوا إلى شخصه وإلى هيبة الدولة ومكانتها، وبأن ما
قاموا به سيشجع آخرين
على مزيد من الإساءة والشغب.
وقال بحزم "أين حق الناس إذن في التعبير عن مواقفها
وعما يجيش في نفوسها، إن الرد على ما ارتكبوه ليس
بالقمع بل بالمزيد من الديمقراطية، المزيد من
الديمقراطية
"..
فسقى الله أيام زمان
_________
كاتب سوري